"المثقف والثقافة" إصدار فكري للباحث الأكاديمي الأردني زهير توفيق صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2013 . و تناول في فصوله الثلاثة موضوعات متنوعة عن الثقافة والمثقف ومفهوم الثقافة الوطنية . في كتابه الجديد يقول الأستاذ زهير توفيق:
أنت هنا
قراءة كتاب المثقف والثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
المثقف والثقافة
الصفحة رقم: 5
فما هي مهمة الفيلسوف بوصفه مثقفاً ملتزماً في حقبة الانهيارات والنهايات لكل ما هو شمولي، وعودة الفلسفة والأنظمة الليبرالية لتتصدر مسرح التاريخ؟
من المستحيل اليوم إعادة أو استعادة صورة الفيلسوف الكلاسيكي؛ أي ذلك المفكر الموسوعي، الذي يبني المذاهب والأنساق الكلية، ويجيب عن الأسئلة المطروحة، ويقدم الإجابات عن أسئلة افتراضية تستنبطها الممارسة، ويطرحها المستقبل·
ويستحيل عليه كذلك - في عصر تفجر المعرفة والعلم والتخصص- الخوض في مسائل شائكة خاض فيها سابقاً، وأصبحت اليوم جزءاً من اهتمام علوم أو اختصاصات علمية دقيقة· ويتعدى دوره (الشوروي)، تقديم النصائح والتوجيهات لإدارات وأنظمة متوترة، عاجزة عن إدارة أزماتها، أو الخروج منها بطريقة ناجحة أو مشرِّفة·
ليست مهمة فيلسوف السياسة الانكفاء على ذاته، والخروج من الموضوع السياسي - الذي ما زال راهناً يحتاج منه موقفاً مبدئياً فكرياً وسياسياً - والانكباب على قضايا مجردة بحجة النقاء الفلسفي، فالسبب الحقيقي لهروبه من عالم السياسة هو فشله وخيبة أمله، كما حصل مع كثيرين من رموز الفكر العربي والإسلامي من محمد عبده إلى الغزالي اللذين لعنا السياسة وتعوذا منها، وأتاحا المجال لطغيان الخرافة والاستبداد السياسي، اللذين تحالفا معاً ضد العلم والعقلانية والتنوير في تاريخنا المعاصر·
تبدأ مهمة الفيلسوف بوصل السياسة بما انقطع من التاريخ، بين العلوم الجزئية والإنسانية، لفهم أبعادها وإشكاليتها المشتركة، ويتضمن عمله الفكري فك التشابك والتداخل في التطبيق والممارسة في عدة حقول إنسانية، وخاصة السياسة· ويتضمن هذا العمل تأصيل الأنساق المعرفية على صعيد معرفي إبستمولوجي أما على صعيد أخلاقي فتنتظره حزمة كاملة من أخطر التحديات الأخلاقية ذات الجذور السياسية في العلم والثقافة: كالحوار، وقبول الآخر، والاختلاف وحدود التسامح والازدواجية، وحقوق الإنسان، والمهمشين، والاستنساخ وحريات الاعتقاد، وحدود مسؤولية الفرد والجماعة في قضايا البيئة وغيرها·
والأهم في تقديرنا هو انخراطه الفاعل في قضايا مجتمعه بوصفه مثقفاً ملتزماً، ما دامت تلك القضايا معلقة ولم تنجز بعد، ولا يوجد من هو أقدر منه على صوغ الأسئلة والرهانات الكبرى، وبلورة إشكالية مجتمعه في مراحل التغيير والانتقال، وتحديد الأدوات الفكرية اللازمة لكشف الواقع وتفسيره، وصوغ التصورات والبدائل الواقعية والعقلانية، لنسف التزييف واستلاب الفرد والجماعة سياسياً ودينياً واقتصادياً· وتحقيق الأمل والحرية، والتدخل الثابت والجريء لحماية التنوير، وتوسيع نطاقه، وعدم ترك الواقع نهباً لمذاهب تحليل وتحريم وتجريم الأفكار والممارسات الإبداعية· وفي هذا السياق نتوقف عند ريتشارد رورتي وهو من مفكري ما بعد الحداثة، الذي طالب المثقفين بالتخلي عن النظرة الكلية والنقدية للواقع القائم، ودعا للاندماج فيه،والتخلي عن اتخاذ أي موقف نقدي راديكالي تجاه المؤسسات الاجتماعية؛ أي إلغاء أسلحتهم الفكرية المادية والنقدية، بقوله: يجب على المثقفين أن يكفوا عن رفض الوقائع··· وأن لا يمارسوا السياسة بمفاهيم تعجيزية (ويقصد بهاالمفاهيم الجذرية في الصراع الاجتماعي)· وتصل رجعيته ذروتها عندما نصح المثقفين بلغة أبوية: يجب أن لا نضيع وقتنا في نقد ديمقراطيتنا، ويجب على المثقف أن يعرف كيف يصبح متواضعاً، فلا أحد في أيامنا هذه يقترح شيئاً أحسن من اقتصاد السوق
هكذا يقلب رورتي الأدوار والمفاهيم الراسخة عن دور الفيلسوف بوصفه مثقفاً ملتزماً، يحمل موقفاً نقدياً من الواقع، وهو الموقف الذي أجمع عليه كبار الفلاسفة والمثقفين من ماركس وغرامشي إلى إدوارد سعيد وهشام شرابي·
ولا أجد ما أصف به موقف رورتي إلا أنه دعوة مغرضة، واستسلام للواقع القائم، وتفكير يميني محافظ معاد للعدالة والعقلانية· فهو بحجة الواقعية والبراغماتية في مواجهة المشكلات المستعصية، سقط في تجريبية بلا مبادئ، تخدم وتفيد ما هو رجعي في عالمنا المعاصر في الشرق والغرب، بتحالفه التلقائي مع أعداء التغيير والتنوير، الذين يريدون تحقيق أوهامهم بالعنف والعدوان، وهو موقف يقف ضد الفكر السلبي؛ أي نفي الواقع القائم الذي يفتقر للعقلانية·
وما ينطبق على رورتي ينطبق على غيره من منظِّري ما بعد الحداثة العرب، الذين انبروا للتشكيك في مشروع النهضة والتنوير قبل إنجازهما عربياً، وصبت مراجعاتهم النقدية في طاحونة الأصولية، التي وقفت ضدهما منذ بواكير النهضة العربية في القرن التاسع عشر، التي أبعدت واستبعدت لاحقاً الفلسفة النقدية، بطريقة منهجية مغرضة، من المؤسسات التعليمية، ولم تستبعد في حقيقة الأمر إلا العقل والمنطق والمنهج العلمي، وتركت الساحة نهباً للأساطير والخرافات، والأفكار الميتة·
على الفيلسوف الملتزم بقضايا التغيير والتنوير الرد، وصياغة موقف نضالي نظرياً وسياسياً، لاسترداد دور الفلسفة وحقها في المشاركة، وتشكيل استراتيجيات التحدي والتقدم في عالم متغير·