رواية "عطرية" للكاتب السوري ابن الجولان معتز أبو صالح؛ الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت عام 2004، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب عطرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

عطرية
الصفحة رقم: 4
-1-
مضى وقت طويل والينابيع لا تزال حمراء· بدأ الجوع يفتك بأهل عطريّة، فخيّم عليها الحزن والكآبة· الينابيع التي كانت قلب حياتهم توقفت عن النبض وقتلت معها كلّ شيء· لقد أَمست هبةُ الطبيعة لعنة كبيرة·
لم يتعرّف أحد إلى سرّ تلك اللعنة· يئس الناس من الإبتهال لكثرة ما صدّعت ترنيماته جدران المعابد· وقد تعبوا من قطف الورود ورميها على وجه النهر آملين أن يستذكر الوردسيّ أسطورة مرجان·· ومرجان الإله لا يستجيب لأيّ شيء· بدأت العيون تتساءل بخوف: هل حقًّا مات العطر في الينابيع!
كثرت التساؤلات ودارت على نفسها التخمينات :
- ماذا جرى؟ كانت الينابيع تحمرّ يومًا في الشهر وفي الصباح تعود كما كانت، نقيّة وطاهرة فتعبق روائحها في سماء عطريّة·
- لماذا لا يأتي ذلك الصباح؟ إذا استمرّت هكذا سنموت جميعًا، وستكون عطريّة مقبرتنا·
- إلهَنا مرجان فكَّ لنا هذا اللغز، وأَنقذْنا من الفناء·
- إلى أين سنلجأ؟ قصور الملك مقفلة، والمواكب التي كانت تشقّ جُزُر عطريّة كلّ شهر توقفت، ولا أحد يدري ماذا يجري هناك· لعلّ الّذي لا نعرفه، خلف الأبواب، هو السبب!
تكرّرت التساؤلات طوال ستة أشهر دون توقّف، وشبح الموت يكبر يومًا بعد يوم· واضطرّ الناس من شدّة خوفهم إلى أكل أيّ شيء يملأ بطونهم·· الأعشاب، الفئران، الحشرات، أيّ شيء·· أيّ شيء يستبقي يقظتهم· أمّا العمالقة، فقد بدأت أفرادهم تعبر النهر إلى عطريّة· تتجوّل على شكل دوريّات منظّمة بين بيوتها وأحيائها منتظرين ولادة العملاق الصغير الّذي سيفاجىء القدر، حين تعلن العلامة التي تخط جسده أن العمالقة هم أسياد عطريّة الجدد، وإلى الأبد·
ذات يوم، وبينما كان بعض الرجال مجتمعين قرب أحد الينابيع في السوسنة، هرول إليهم رجل وصاح:
- العرّّاف الكبير! ليس لنا سواه، سمعت أنه فرّ من القصر· سنبحث عنه في كل مكان، فلا أحد غيره يستطيع أن يخبرنا عمّا يجري·
أيام طويلة مضت وهم يبحثون عنه في أرجاء السوسنة· أخيرًا وجدوه ممدّدًا على ضفّة النهر لا يحرّك ساكنًا، كأنّه يطلق أنفاسه الأخيرة· كان قد هجر القصر قبيل حدوث الكارثة، بعد أن خلع الملك وحاشيته أقنِعَتهم·· رمى قناعه وفرّ كي يتعلّم الصدق من جديد
ركضوا إليه، وتحلّقوا حوله راكعين حين صرخ به أحدهم :
- قل لنا أيّها العرّّاف ماذا جرى· لقد بحثنا عنك في كل مكان كي تخبرنا عن سبب هذه اللعنة التي حلّت بنا·
لكنّ العرّاف ظلّ صامتًا لا يحرّك ساكنا· علّق عينيه بالسّماء واسعتين ما أمكن، مدهوشتين حدّ العماء·
صاح آخر:
- تكلّم أيها العرّاف· كنت دائمًا تتنبّأ بما أراده الملك، قل لنا الآن ما يجب أن يُقال·
فحرّك شفتيه وتمتم بصوت خفيض:

