هذه "صرخة" مها القصراوي في عالم الصمت المريب، عالم عنفه صمت، وصخبه صمت، وتواطؤه صمت، والحركة الموارة فيه صمت.
أنت هنا
قراءة كتاب صرخة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
لقد استهجن السؤال ، وفاجأتني إجابته : لماذا لا أكون راضياً؟··· ماذا نفعل ؟ ··· أين نذهب ؟··· أريد أن تعطيني جواباً ··· من مدينة إلى مدينة نرحل ··· ظروف حياتنا تكاد تكون متشابهة ··· أنت ولدت في المنفى ··· وأنا كذلك ··· كلٌ منا له مسقط رأسه ··· هذه رابع مدينة نعيش فيها ثم نرحل ··· سواء كان الرحيل اختيارياً أم قسرياً ··· نحمل ذكرياتنا وهمومنا وأحلامنا وآمالنا وأشياءنا··· في كل مدينة نترك أشياء عزيزة علينا ··· لا نستطيع أن نحملها ··· نغادرها وتغادرنا ··· ثم تسألني إن كنت راضياً ··· يا صديقي ··· ليس المهم ما يرضيني ··· ولكن واقع الحال ··· أحاول بعد أن تزوجت وجنيت على غيري حين أنجبت أطفالاً أن أوفر لهم الاستقرار ··· ولكن هل تعتقد أنني قادر على تحقيق الأمان لهم ··· لا أدري ··· أحاول أن أكون راضياً ··· أتعايش ··· والعمر يمضي ··· الحياة لن تتوقف ··· هل تريد نصيحتي ··· تزوج ··· كي تتعايش وتحقق الاستقرار في حياتك ···
لقد أضحكتني نصيحته ··· يريدني أن أتزوج ··· في حالتي، الزواج جريمة قتل أرتكبها بحق نفسي وحق الآخرين ··· الرجل في عالمنا العربي عليه أن يخصي نفسه والمرأة تستأصل رحمها ··· ربما نقتل دودة نتوارثها ··· لعله يأتي زمن يُخرّج جيلا بكراً من رحم الأرض ··· يتطهر من هذه الدودة ···
حين أسمع كلمة الزواج ··· تقفز إلى ذاكرتي ··· لم تكن يوماً بعيدة ··· هي الماضي في دمي وجسدي ··· أرى وجهها في كل وجوه النساء ··· لا يمكن لي أن أنسى أو أتعايش مع امرأة جديدة ··· مهما كانت الظروف ··· الفرس ، هكذا كان يطلقون عليها طلاب الجامعة ···
أتأملها من بعيد ··· جسدها الطويل الممشوق ··· شعرها الكستنائي الخيلي ··· ذيل فرس ··· خطوتها ··· خطوة الفرس ··· جامحة ··· تجتاح المكان في حضورها ···لا تحدث أحداً ··· تستعلي وتستكبر ··· لم يستطع أحد أن يروّض عنفوانها وجموحها ··· كنت أنظر إليها من بعيد ··· أينما تذهب أسير في خطاها ··· أرقبها ··· أجد نفسي مندفعاً إليها ··· إنها القدر الذي لا مفر منه ··· سمّاها الناس الفرس ··· وسميتها ليلى ·
شاءت الصدفة أن أجلس وإياها على طاولة في كافيتريا الجامعة ··· تركت حقيبتها وكتبها وذهبت تأتي بطعامها ، وجئت صدفة وجلست على الطاولة ذاتها ، لم أكن أدرك أني على موعد مع القدر ··· حدقت فيها عن قرب ··· إنها الأجمل ألف مرة من صورة رسمتها عن بعد ··· لم أر في حياتي لوناً يشبه لون عينيها ··· اللون الرمادي الأزرق ··· لون البحر ··· عيناك ألوان الطيف ··· لون البحر ولون الشجر ··· للمرة الأولى أرى العيون تتلون ··· نسيت نفسي أنني أمامها ··· نسيت الناس من حولي ··· لم أملك أمام سطوة عينيها وحضورها إلا الاستسلام والتأمل ···
شعرت بنظرتي والوله الذي تملكني ··· رأيتها تحول نظرتها باتجاهي ··· وتصوب إشعاعها نحوي ··· في تلك اللحظة اجتاح الصداع رأسي وجسدي ··· ماذا فعلت بي هذه المرأة ··· من أين جاءت؟ ···
انتهت من طعامها وحملت كتبها وحقيبتها وخرجت ··· تركتني ضائعاً ··· تائهاً كأنني بركان قد انفجر في مكانه ··· لم أكن قادراً على الحركة ··· تركتها تنسحب من أمامي ··· وهجها مازال يسيطر علي ··· بحثت عنها ، لم أجدها··· أين ذهبت ··· هل كان حلماً ؟ هل تخيلت حضورها ؟··· ماذا حدث ؟··· لم أتناول طعامي ··· حملت كتبي وخرجت كالمجنون ··· أمشي في شوارع الجامعة ··· أبحث عنها ··· ربما أراها لو من بعيد ··· اختفت فجأة ···
في اليوم التالي في المكان ذاته في الكافتيريا ··· رأيتها مرة ثانية ··· حين تدخل المكان ، تجتاحه بكبريائها وعنفوانها ··· تختال بذيل الفرس ··· جلست أمامي··· صوبت وهج عينيها باتجاهي ··· فقدت قدرتي على الحركة والتركيز ··· تبعثرت كورق الشجر حين يتطاير مع هبة الريح ··· بعد لحظـات ، حاولت استجماع نفسي وقدرتي للحديث ··· لكنني فشلت ، وبدأت هي تحدثني ···
أنا شهد، طالبة في كلية الاعلام في السنة الثالثة ، أقيم في سكن الطالبات··· ثم سألتني عن اسمي ، وأنا كالأبله ··· لم أستطع قول شيء ···
ثم نطقت : أنت الشهد والفرس وليلى ···
ضحكت وأعادت سؤالها عن اسمي ··· لقد نسيت اسمي في حضورها··· لم أعد أذكر شيئاً سوى أنها أمامي ··· اللحظة الحاضرة ··· فقدت الذاكرة والماضي ··· لم يعد أمامي سوى امتلاك اللحظة الراهنة ··· أخاف أن تهرب مرة أخرى ·
الصمت سيد اللحظة واللقاء ··· وكان لقاء العيون احتراقاً واشتعالاً ··· لم أكن أطيل النظر في عينيها فترة طويلة · خرجنا نمشي في شوارع الجامعة ···
قلت لها : إنني في السنة النهائـية في كلـية الآداب ··· قلت لها إنني أسميها الفرس وليلى ··· سألتها عن أهلها·
قالت لي : إنها من هناك ··· من الوطن الذي لم أره· هي الشهد والفرس وليلى وجبل النار ··· الآن عرفت سر هذه المرأة ··· من أين تستمد عنفوانها وشموخها ؟··· من مسقط رأسها ، من مدينة التاريخ ··· جبل النار والثوار··· تخطو كالفرس ، لأنها خطت على تلك الأرض ، فورثت الجموح في خطواتها ···