رواية (الصندوق الأسود) للكاتبة العراقية كليزار أنور، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وهي الإصدار الرابع للمؤلفة بعد مجموعتيها القصصيتين (بئر البنفسج/ 1999) و(عنقود الكهرمان/2006) ورواية (عجلة النار/2003).
أنت هنا
قراءة كتاب الصندوق الأسود
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الصندوق الأسود
الصفحة رقم: 7
كانت مساومة قاسية لا بد أن أرضخ لها في سبيل هدف مشروع لأي امرأة تحلم أن تكون أُماً· وسحبتُ كل ما أدخره من المصرف الذي فيه حسابي الشخصي، وحولته إلى (5000) خمسة آلاف دولار· وبدأنا بإجراءات السفر· غادرنا بيتنا في فجر يوم الاثنين وبعد عيد الفطر مباشرةً·
طوال الطريق يراودني هاجس غريب·· لقد تزوجت بطريقة متطورة·· آخر ما توصل إليه العلم·· وأُريد أن أنجب بطريقة متطورة أيضاً، وبآخر ما توصل إليه العلم· سألتُ نفسي مبتسمة: هل يا ترى كيف سأموت؟ أكيد في مركبة فضائية أو على سطح كوكبٍ لم يصل إليه البشر!
تأخرنا في الحدود العراقية، فنظام الجوازات تعطل فجأةً·· بقينا أكثر من خمس ساعات، ولم يختموا جوازاتنا إلاّ بعد وضع (10000) عشرة آلاف دينار عراقي في كل جواز·· وفي الحدود السورية الفساد الإداري نفسه، فقد وضعنا (100) مئة ليرة سورية داخل كل جواز·
وصلنا دمشق بعد الواحدة من منتصف الليل· مكتب السيارات كان في (السيدة زينب) فاضطررنا أن نمضي ليلتنا في أحد فنادقها· وصباحاً ذهبنا إلى عيادة الدكتور لنحجز لنا موعداً· ومن أحد المصارف القريبة - وما أكثرها- حولنا الدولارات إلى ليرات سورية· واستأجرنا شقة أرضية مفروشة مناسبة -والجميل لم يسكنها أحد قبلنا- في (مخيم اليرموك) وهي منطقة لا بأس بها -تشبه الكرادة في بغداد- يتوسطها سوق كبير (سوق لوبية) فيه كل شيء من الخبز إلى الذهب!
كنا قد دخلنا إلى صالة مستديرة، التفت الوجوه مُحدقة بالداخلين، رجالاً ونساءً·· وجوهٌ جافة، جدبة، لم تطأها النظارة من شدة اليأس·· وجوه كابية، بائسة، جاءت من أجل أمل كان خبيئاً من زمان· الرجال تحدق في الرجال، وتنكس نظراتها إلى الأرض·· كأنها تخشى الاتهام بالانكسار واليباس· الوجوه من حولنا كانت تحاذر من أن تلتقي ببعضها، لأنها تعرف، بل تُيقْن السبب الوحيد الذي جاءت من أجله· أُناس قطعت المسافات تاركة بيوتها من أجل أن يتبدل الجفاف بالاخضرار·
زوجي كرجل يعرف ما الذي يخشاه الرجال·· الاتهام بالعقم! وهذا الاتهام كأنه يقتلع الرجولة فيهم ليحولهم إلى -مجرد- هشاشة· كان يعرف ما الذي يجول في خاطرهم، وهو يدرك جيداً معنى الأمر، لأنهُ يتفهمهُ ولا يعيرهُ أهمية ويدركهُ، ولولا إصراري لَما حضر معي نهائياً· وجدتهُ يُحدق في الرجال واحداً واحداً، يدقق في ملامحهم، بل يكاد يحفظها، لأنهُ يستدرج الوجوه -بخبرة أديب- إلى مخيلته، فهو يعلم معاناة رجل تزوج، وعرف بأنه فاقد للرجولة ولو اجتماعياً فقط! يبدو بعيداً كل البعد عن التفكير بذاته، لكنهُ يفكر بكيفية تفكير هذه الرجالات التي جاءت من العراق إلى هذه العيادة·
كاميرات في الزوايا تنقل الصور إلى غرفة الطبيب، يراقب بها عماله وزبائنه·· ولم يفكر بأحد كيفَ يتعبه الوقوف الطويل بالانتظار·· وكيفَ تمتلئ المثانات·· وأينَ تُفرغ؟ فلا وجود لدورة مياه في العيادة كلها، سوى حمام على آخر طراز في غرفة الطبيب! منذ أول وهلة وأنت تدخل العيادة تعرف بأن المسألة تجارية أكثر مما هي طبية أو إنسانية· والطبيب لا يهمه إلاّ الربح السريع·· وخصوصاً، فالعلم يتقدم·· وبلا شك هو يريد مزيداً من الزبائن ليقبض منهم (المصاري) بلغة السوريين·· المصاري ولا شيء غير المصاري·