الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد
أنت هنا
قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
الأطفال كانوا هم أول من شاهد شبحه الضخم قادماً يتهادى في ضوء القمر، كانت نسمة ليلية حركت رائحة أشجار البان تتبعه، حتى أن الأطفال اعتقدوا في البداية أن هذا الشبح القادم دون ذكريات كان يمتلك سلطة خفية علي الرياح وعلى أشجار البان، وحينما لاحظوا قامته الفارعة وهو يقترب أكثر بخطوات بطيئة مثل هيكل سفينة غارقة، اعتقدوا أنه العجوز منوفل الذي كان يظهر في القرية في الأيام الخوالي ساحباً خلفه جوالاً من الخيش يضع فيه مقتنياته القليلة من مستلزمات التجوال·
وفجأة اكتشفوا أنه كان يسير في ضوء القمر دون ظل يتبعه، وبعد لحظات من عبوره بينهم، اكتشفوا أنه يملك أيضاً ميزة العبور ليس فقط دون ظل أو ضوضاء، ولكن أيضا دون ذكريات، فقد شعروا بعد لحظات من مروره أن عبوره بينهم بخطواته الواسعة مثل خطوات جمل لم يخلف لديهم أية وقائع لحفظها في الذاكرة·
تسرب الخبر إلى القرية واكتسب صخباً فورياً: عاد الطاهر محمد نور الدين، وفي البداية لم يصدق الكثيرون الخبر، لأنهم لم يصدقوا إمكان ظهوره دون صخب رسمي يصاحب وجوده، لان آخر الأخبار التي وصلت عنه أكدت بأنه يشغل منصباً رفيعاً في المجلس العسكري الحاكم، حتى أن الرجال تداولوا له اسماً أكثر إثارة: السيد المشير، ولأن بعض الشائعات زعمت بأنه يشغل منصباً سياسيًا مرموقاً فقد توفرت الفرصة طوال سنوات لنسج أخبار كثيرة عنه·
وتقديراً لأمجاده العسكرية المتخيلة فقد توجوه بطلا في معارك فاصلة غير موجودة في ذاكرة التاريخ وأسبغوا عليه أنواطاً من الدرجة الأولى بسبب التفاني والجدارة وإنكار الذات، حتى أنه أصبح متعذراً في الفترة الأخيرة تخيل صورته الحقيقية بعد اللمسات الكثيرة التي وضعت عليها لجعلها تتلاءم مع كل إشاعة تلازم ارتقائه لسلم أمجاد جديدة·
وأكدت النسوة المسنات أنهن سمعن اسمه يتردد في نشرات أخبار الساعة السادسة والنصف مصحوباً بأناشيد عسكرية دون أن يستطعن الجزم إن كان اسمه يرد ضمن قائمة الأحياء أم ضمن قائمة الموتى أثناء محاولتهن البحث عن خيط يقود إلى كشف مصير المفقودين من أيام الحرب الأهلية الأولى·
في البداية احدث نبأ ظهوره إحساساً بالقهر لدى أكثر المسنين خبرة حتى أن أحداً لم يجازف برؤيته، لا خوفاً من الشعور بالإحباط بسبب عدم وجود أدنى شبه بينه وبين الصورة التي رسموها له في خيالهم الجماعي، وليس بسبب رغبتهم في استمرار حلم ارتقائه الأسطوري لسلالم المجد، ولكن بسبب خوفهم من احتمال حدوث أخطاء بروتوكولية أثناء استقباله، عدا بعض النسوة اللائى زعمن قرابة غير مؤكدة له·
وفي البداية لم يعثرن عليه في الأرض الجرداء التي كانت تخص أسلافه، بل وجدنه هائماً في شوارع القرية وهو منهمك في البحث عن موقع بيت أسرته القديم في خريطة على ورقة صفراء متآكلة الأطراف وبدا منظره شبيهاً بمنظر تلاميذ المدرسة الذين يبحثون عن كنز درس الجغرافيا المدفون في مكان ما، كان موقع البيت محدداً على الخريطة بعد مجموعة من أشجار الحراز والدوم منتشرة في شكل نصف دائرة حول تل رملي يقع في مواجهة غابة السنط التي تحف بخور ارقو، في شارع جانبي كتب على جداره المتهدم بحروف ضخمة: شارع الأرامل·