الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد
أنت هنا
قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
الصدفة هي التي جعلته يشرب في الليلة السابقة خمراً مغشوشة أطفأت في دواخله رغباته الأزلية في العراك والتدمير وحافظت على طاقة أبقته مستيقظاً في وقت أخلد فيه الوطن كله للنوم، الوطن كله بدءاً من مناطقه الصحراوية الجافة شمالا حيث لا شيء سوي الغبار يخيم فوق قفر أشجار السنط وحتى المستنقعات الجافة لآخر خريف منسي في قاع الوطن، حيث لا شيء سوي القحط والدمار الذي خلفته حرب أهلية نشأت في نفس لحظة مولد الوطن، لأنه ومنذ اللحظة التي بدأ فيها استبداده بالسلطة، بدأ الخريف يتراجع حتى اختفى في أدغال القارة السوداء، وأصبح الوطن كله حزاماً للجفاف، وتحولت المجاعة التي حصدت الآلاف في غرب وشرق وأواسط الوطن بفضل أجهزة إعلامه إلى دعاية يطلقها الإعلام الغربي بسبب السياسات الرشيدة للنظام·
ورغم أن صلاة الاستسقاء التي أمها بنفسه لم تثر شيئاً سوى الغبار، إلا أن أجهزة إعلامه أكدت أن وصوله إلى منطقة ما في نطاق الجفاف، كان كفيلاً بهطول المطر، حتى تعين علي مرافقيه ارتداء ملابس من المطاط مثل الضفادع البشرية، ليتمكنوا من مواصلة الطواف معه·
وأنهم في أحد أيام هذا الخريف المبارك كما وصفته أجهزة إعلامه، ضلوا طريقهم في منتصف النهار حينما حاصرهم المطر الكثيف بالقرب من بابنوسة، واتجهوا إلى الحدود التشادية فيما كان الخريف يتبعهم دون هوادة، وأنه تعين إجلاء ركب السيد الرئيس بفصيل من الدبابات بعد أن غرزت جميع سيارات اللاندروفر في الوحل، وفيما كانت قصص الخريف المبارك تملأ صفحات الجرائد الرسمية كانت فلول النازحين من الجفاف تشكل قرى عشوائية كثيفة حول العاصمة وكان وباء الكوليرا يحصد العشرات كل يوم·
بينما كان أهل القرية لا يزالون منهمكين في التشاور لتشكيل الوفد الذي سيقوم باستقبال السيد المشير، كان هو لا يزال مستسلماً لنوبة الذكريات التي رأي فيها مشاهد مختلفة من عصور استبداده الثلاثة تعبر في وضوح مذهل في قفر ذاكرته، رأى نفسه يجلس وحيداً في ضوضاء شفق ناء قبل عدة أشهر من استيلائه على السلطة، حينما فقد كل أفراد أسرته في حادث حركة مشؤوم·
كانت أسرته كلها والداه وخالاته وزوجته وإخوته الثلاثة متجهين في حافلة إلى مدينة كوستي لحضور مراسيم زواج أحد معارف الأسرة، حينما انقلبت السيارة واشتعلت فيها النيران· تلفت حواليه فوجد نفسه وحيداً في صحراء قاحلة لا عزاء فيها ولا حتى ومضة سراب، تشبث مثل غريق بقشة الشراب، وحين عرف بخبر الفاجعة بكى للمرة الأولى في حياته، لأن والدته أخبرته أنه لم يصرخ حينما خرج إلى الحياة·
استغرق في البكاء آنذاك حتى اعتقد الجميع أنه استنزف كل حصته المدخرة من الحزن المهمل، وطوال عدة أيام ظل باب بيته مغلقاً في وجه كل الذين جاءوا لزيارته، بعضهم جاء يؤدي له واجب العزاء، والجانب الأكبر منهم جاءوا بدافع الفضول لأنهم لم يصدقوا إمكان انخراطه في البكاء بسبب شهرته كملاكم ومحطم أبواب·
وفجأة في اللحظة التي اعتقد فيها الجميع أنه لم يعد مؤهلاً لممارسة الحياة بسبب استنزاف الموت، جفف دموعه وارتدى ملابس عسكرية جديدة وتأبط زجاجته واستأنف الحياة، استأنفها بضراوة أشد، لا ليعوض حيوات كل أولئك الذين ماتوا من أسرته كما اعتقد الكثيرون في البداية، ولكن خوفاً من الموت الذي نظف حواليه بدقة مقص جنايني وتركه مكشوفاً جاهزاً لضربة أخيرة·
استأنف الحياة بضراوة أشد حتى أن أحداً لم يجرؤ في أيام عودته الأولى على الشراب معه مساءً، ورغم ذلك كان يطاردهم ليلاً، يبحث عنهم دون هوادة، حتى أن معظم أصدقائه كانوا يعينون مرشدين لتنبيههم بوصوله، ليكتشف عند دخوله بعد أن يحطم كل الأبواب التي تقابله أنهم لاذوا بالفرار مستخدمين الجدران، ويكتشف أن كؤوس الشراب الأخيرة التي كانوا على وشك احتسائها لحظة وصول الإنذار لا تزال معلقة في الهواء وأن صحن الفول الضخم لا يزال ممتلئاً وساخناً·
كانت تلك المرة الأولى في حياته التي ينخرط فيها في البكاء، وبكي للمرة الثانية بعد أيام من إعدام الرائد عثمان محمد زين العابدين والرائد أكرم نور الدين والمقدم حسن عزالدين الطاهر الذين أدانتهم محكمة عسكرية، لم يستطع مطلقاً وطوال عدة سنوات أن ينسى مشهد تنفيذ حكم الإعدام في المقدم حسن عزالدين الطاهر فى منطقة الحزام الأخضر، شاهده في ضوء الفجر الوليد يسير إلى الموت بخطوات ثابتة رافضا أن تعصب له عينيه بعصابة سوداء قبل إطلاق الرصاص عليه·
والرائد أكرم محمد نور الدين الذي كان وسيماً وسامة مفرطة ويملك حضوراً قوياً حتى أن ظهوره في مكان ما كان يلغي وجود كل الآخرين، وكان مهذبا يستحي حتى أن يرفع عينيه في وجه طفل·