الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد
أنت هنا
قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
وبعد بضعة أسابيع أمر بإرسال الفرقة التي نفذت حكم الإعدام في اللواء الزبير سليمان إلى مناطق العمليات في جنوب الوطن لدى تجدد الحرب الأهلية، وأمر بوضعهم في المقدمة، ثم راح بعد ذلك يتسقط أخبار موتهم:
الرقيب حمدان النور لقي مصرعه بعد انفجار لغم أطاح به إلى أعلى شجرة مانجو بالقرب من توريت·· والجندي دفع الله سليمان قتل برصاص المتمردين بالقرب من راجا صباح التاسع عشر من سبتمبر بينما كان نائماً، يشعر أن أوجاع ضميره باتت أفضل دون أدنى شعور بالخجل من تشفيه من وقائع الموت · · ·
الجندي الحسين نورين خطفه تمساح بينما كان يغسل ملابسه على ضفة بحر الجبل واضطر زملائه إلى الوقوف جامدين فيما التمساح يتلاعب به خوفا من إصابته إذا أطلقوا النار علي التمساح، حتى اختفى به التمساح إلى الأبد وبعد يومين عثروا على بقية عظامه داخل أجمة مهجورة·
الرقيب الفاتح محمد أحمد قتلته رصاصة طائشة مساء السابع من أكتوبر حينما كان في المقدمة يستكشف حقلاً للألغام قريباً من الحدود اليوغندية·· والجندي شرف الدين علي النور نفذت ذخيرته أثناء تبادل لإطلاق النار مع المتمردين بالقرب من نيمولي فقام المتمردون بنزع عينيه وتقطيع جسده إرباً··· أرباً، فيشعر بتحسن طفيف في موقف ضميره دون أن يؤرقه يقين اكتشافه أن نار عذاب ضميره لم تكن تطفئها سوى نار الموت·
يطرق برهة قبل أن يسأل: وأين الرقيب عبد العظيم التوم ، فيعرف أنه: في مستشفي القوات المسلحة سيدي الرئيس، حالته خطيرة بعد إصابته بطلقات نفذت إلى صدره أثناء كمين بالقرب من قوقريال·
تسلل ليلاً بعربته إلى مستشفي القوات المسلحة وصعد بهدوء إلى الغرفة التي كان الجريح يخلد فيها للنوم، اكتشف أن جسمه كان موصولاً بأنابيب التغذية والأوكسجين وأن ممرضة بدينة كانت تنام أرضاً بجانب فراشه·
قام بهدوء بسحب الأنابيب من جسد الجريح في نفس اللحظة التي شعر فيها بجسده يبطل شحنة رعدة خوف مفاجئة نبتت في أطرافه لحظة اكتشافه إن الرقيب عبد العظيم التوم استيقظ للحظة أخيرة وحدق فيه بعيون تقطر حزناً وحقداً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة·
كانت أولى العلامات التي ظهرت كمؤشر لبدء نشوء خلل في ذاكرته في أحد أزمنة سلطته، قد ظهرت في شكل بدء خلو ذاكرته من أخطائه الدموية العظيمة، ليس فقط نتيجة لرفضه الباطني الجازم للاعتراف بها ولكن أيضاً لفراغ روحه الذي أتاح له سلطة انتقائية على الذكريات، ولم تكن المشكلة تكمن في خطورة هذا الفراغ الذي يتيح له التنصل من كل منجزات عهده من الأخطاء، بل في احتمال ارتكابه لأخطاء جديدة أكثر دموية لشغل فراغ ذاكرته·
رغم أنه أبدى في تلك الأيام وللمرة الأولى منذ استيلائه علي السلطة قبل أكثر من عقدين من الزمان، أبدى مرونة لا تصدق تجاه الموت، لا كواقعة بل كرمز، رغم رفضه المعلن له كمبدأ، حتى أنه استعاض في الأيام الأخيرة عن عصا الشيخ الحسين الضرير التي عصمته من الموت طوال سنوات كما كانت تؤكد شائعات رجال أمنه، استعاض عنها بمسبحة من اللالوب طولها سبعة أمتار أحضرها منافقوه الأقربون وزعموا أنها كانت تخص الشيخ حسن ود حسونة·
كما أظهر تسامحاً هادئاً في التعامل مع المنغصات اليومية، فاستمع بصبر إلى وزير المالية وهو يعرض عليه فحوي آخر تقرير لصندوق النقد الدولي عن التدهور الشديد في الاقتصاد الوطني، وفحوى تقرير آخر عن فشل كل محاولات الحصول على قروض من مؤسسات الإقراض الدولية لاعادة تأهيل مشاريع التنمية·
استمع بلامبالاة هادئة كأن كل هذه المصائب تحدث في وطن آخر لايخصه، بل أنه طلب نسخاً من جريدة المعارضة الخارجية التي تصدر خارج الوطن والتي تتحدث بالوثائق عن فساد نظامه·
وخلافاً لتعليماته السابقة فقد رفض التصديق باستخدام الذخيرة الحية لتفريق مظاهرة كانت تعبر في تلك اللحظة في قلب العاصمة لذوي الضباط الذين أعدموا دون محاكمة في آخر محاولة انقلابية ضده، بعد فشل استخدام الغاز المسيل للدموع، كما أمر بتجاهل مرور مظاهرة لذوي المفقودين منذ أول سنوات استبداده بالسلطة·