الخريف يأتي مع صفاء ليست رواية للتأريخ، بل هي موقف منه· ولو كان بعض أهل الجنوب والغرب وغيرهم يشعرون بالتهميش من الشمال، سياسة وأدباً، فإن أحمد الملك بموقفه القومي الواضح قد اختصر الكثير من الظلامات الإنسانية· وموقفه النبيل يلخص التجرد المطلوب من كل أهل الأد
أنت هنا
قراءة كتاب الخريف يأتي مع صفاء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
شاهد صورته تطل من صحيفته الرسمية، صورته التي ترقى إلى أول أيام عصر الجفاف الذي تزامن مع استيلائه على السلطة فتراجع الخريف عن الوطن وغارت المياه الجوفية في باطن الأرض حتى استحال الوصول إليها، حتى الطيور المهاجرة اختفت من سماء الوطن·
تستغرقه الصورة فيشعر بها تنشيء حواجز من الذكرى حوله فلا يكاد يستمع إلى أصوات رجال أمنه: سيدي الرئيس رجموا وزارة الداخلية بالحجارة وأوسعوا الوزير ضربا بعصي الخيزران حينما خرج ليحاول تهدئتهم، يستمع إلى أصواتهم البعيدة القادمة من قاع الذاكرة ويقول بعد مدة طويلة وكأن الأمر لا يعنيه:
لا يستطيع حتى حماية نفسه ·· هذا المغفل ! ···
يستمع للأصوات المذعورة من حوله تحولها حواجز الذكرى التي تغرقه إلى مجرد همس متقطع:
سيدي الرئيس أحرقوا وزارة المالية، وسحلوا الوزير في التراب، فيشعر ببعض التشفي في قاع لاوعيه، يتمتم: يستحق أكثر من هذا ·· هذا المفلس !
تستغرقه الصورة فيشعر بنفسه ليس مجرد رسم ضوئي في واجهة الصورة، بل يشعر بنفس أعراض زمان الصورة، يرى وتيرة المواسم تتحول من حوله لتحكي زماناً يتوافق مع نفس ملامح المكان، ويستمع لصخب قديم يرقى للعصر الأول للجفاف، يري رجال أمنه المذعورين وقد استعادوا ثقة الزمن الغابر حينما كان بمقدورهم اكتشاف المؤامرات حتى قبل أن يفكر فيها منفذوها، يقولون له:
الأول عثرنا عليه في مطعم أتينيه سيدي الرئيس، كان يغني بصحبة مجموعة من السكارى أغنية 'لو ما مصدقنا أسأل العنبة الرامية فوق بيتنا' وحينما رفعناه من الأرض وجدناه غارقاً في بركة بول ساخن تفوح منه رائحة الأسيتون·
والثاني عثرنا عليه في العرض الثاني في سينما الحلفايا أثناء عرض فيلم هندي لشاشي كابور ووجدنا حوله أربعة زجاجات شري فارغة وكان يغني مع شاب من قبيلة الدينكا أغنية غير معروفة بلهجة غربي جوبا يرددان فيها نبوءات الزعيم قويك قندنق بونق بأن الحرب الأهلية سوف تندلع مرة أخرى·
والثالث تبعناه وهو يعبر مجاهل السافنا، متنكراً مرة في زي رعاة الماساي ومرتدياً في مرات أخرى زي قبيلة الذاندي زاعماً أنه حفيد الملك بودوي باسنقبي الذي قتل علي يد الإنجليز في مطلع القرن العشرين، وفقدنا أثره فجأة في منطقة الحدود الكينية ثم عثرنا عليه مرة أخرى بعد ثلاثة أيام بزي سائح أمريكي وكان يستخدم نظارة معظمة يراقب بها أسراب طائر البشروش المهاجر حول ضفاف بحيرة ناكورو·
والرابع تبعناه وهو يعبر نطاق موسم الدرت وكان يشارك أثناء مروره في عمليات حصاد الذرة والسمسم ووجدناه مشاركاً في مهرجان رقصة تيوكوبو بزي فقيه من الفولاني، زاعماً لنفسه مقدرة خارقة على شفاء الجروح حتى جروح القلب الأكثر نسياناً·
ثم اقتفينا آثاره وهو يعبر مع عصابات التهريب التي تقوم بتهريب السكر والصمغ العربي من داخل الوطن، ثم وهو يتوقف ليشارك في مهرجان لاختيار ملكة جمال بحيرة تشاد وشاهدناه يرقص السنجكا وكأنه ولد وعاش في تلك الأصقاع النائية حيث لا شيء سوي أحراش الصحراء المنسية التي يعبر فيها في أمسيات ضوء القمر قطاع الطرق الذين خلفتهم سنوات طويلة من حروب أهلية لا تنتهي·
ثم عبر نهر النيجر على متن قارب صيد صغير وتبعناه وهو يخترق الصحراء الكبرى برفقة قافلة من قبيلة الطوارق وحين أوشكنا علي الوصول إليه بالقرب من مدينة كانو، فقدنا أثره فجأة لدى بدء هبوب رياح الهارمتان الموسمية·
والخامس عثرنا عليه في مستشفي التيجاني الماحي وحتى نصدق بأنه مصاب بانفصام الشخصية حاول أن يحدثنا بلسانين مختلفين في وقت واحد، إلا أننا استطعنا تمييزه بسهولة لأنه كان المجنون الوحيد الذي اعترف بأنه مصاب بالجنون·
والسادس عثرنا عليه في ملابس شحاذ جوار الجامع الكبير ولم يكن يستجدي المارة بل كان يعظهم، وفي البداية اعتقدنا أنه مجرد واعظ مخبول يستمع له المارة بدافع الفضول، وكان يلوح في يده بنسخة من كتاب بدائع الزهور لابن إياس لولا أننا لاحظنا أنه كان في حديثه يستوحي مقاطع من رأس المال·
بعد أن تم الاتفاق على تشكيل الوفد الذي سيقوم باستقبال السيد المشير، نشأت مشكلة أخرى استغرقت وقتاً طويلاً قبل أن يمكن احتواؤها، فقد أصر سليمان ودحاج علي الأعرج على أن يكون رئيساً للوفد، مستنداً في إصراره علي أنه كان أول من رآه وأول من أعلن وصوله للقرية، كما أنه استند إلى واقعة قديمة حدثت قبل سنوات أثناء سمر ليلي فوق كثبان الرمال شرق القرية، فقد اقترح أحد الحضور أن يقوم كل واحد بوضع تصور خاص لصورة السيد المشير وتقوم مجموعة محايدة باختيار أفضل تصور·
كان سليمان ود حاج علي الأعرج هو الوحيد الذي نجح آنذاك في رسم صورة للسيد المشير موضحاً فيها سماته العسكرية وإن كان نجاحه بائساً فقد تخيله في صورة مجند في قوات الشرطة الشعبية يتعقب السكارى ويطارد النسوة المسنات لجمع الضرائب على أشجار النخيل·