عنوان الرواية هذا هو، بحدّ ذاته، رمز لمكان كان مضيئاً ثم أخذ يدب فيه الظلام. المكان: جامعة في العراق، والظلام ينتشر في بلد الحضارات ويمتد إلى موقع تدريسها.
أنت هنا
قراءة كتاب إذا الأيام أغسقت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
كان عبد كريم قاسم رجلاً بسيطاً ومخلصاً للعراق، تعوزه الخبرة والحنكة السياسية· ولكن عندما تقلد أمور الحكم طمح في السلطة المطلقة· أما عبد السلام فكان رجلاً طائفياً، متهوراً ومحدود الأفق· وأصبحت خطاباته العديدة، منها: لا قصور ولا ثلاجات بعد اليوم، مثاراً للتهكم والسخرية بين الناس· ولم يكن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك راضيا عن سلوك نائبه عبد السلام، فاحتدم الصراع والتناحر بينهما للقبض على مقاليد السلطة والتفرد بها، واهملت فكرة تسليم مقاليد الحكم للمدنيين عن طريق اجراء انتخابات حرة·
و تفاقم الوضع سوءاً عندما عيّن عبد الكريم قاسم، قريبه فاضل المهدواي، رئيساً لمحكمة الشعب، لمحاكمة جماعة العهد البائد، فأصبحت المحكمة سيرك واتجهت الى مهاترات مع الرئيس عبد الناصر، ومنافسة شعرية وخطب حماسيةرنانة بين رئيس المحكمة المهداوي والحاضرين من الناس المؤيدين لكل ما يتفوه به· وانتشرت الفوضى في المحكمة إلى درجة أن المتحمسين من الحاضرين رموا الحبال على المتهمين الواقفين داخل قفص الاتهام، مطالبين بشنقهم، وكأن التاريخ أعادنا الى عهد الثورة الفرنسية، التي قاسى سكانها من العنف والفوضى التي تجلت في أحكامها الاعتباطية منذ مئتي عام·
كما أخذت المقاومة الشعبية التي أنشئت كميليشيا، تجوب شوارع مدينة بغداد عند غروب الشمس، وتقوم بتفتيش السيارات والمارة من الناس المشتبه بهم، وفرض منع التجول بعد منتصف الليل، الذي استمر معظم عهد عبد الكريم قاسم· وتم القاء القبض على اعداء الثورة الذين أخذت تتزايد أعدادهم يوماً بعد يوم! فساد جو مشحون بالرعب والخوف بين الناس، وكانت المقاومة الشعبية تقتحم الدوائر الحكومية حتى في رابعة النهار لإلقاء القبض على الموظفين من أعداء الثورة· هذا ما انحدرت اليه الثورة من تدهور وفقدان المصداقية والمبادئ التي جاءت من أجلها·
و صدرت في بداية الثورة مراسيم أدت الى تخريب المستوى العلمي كاصدار مرسوم الزحف وطُبق هذا المرسوم على الطلبة الذين لم ينجحوا في امتحانات البكالوريا لكي يمكنهم دخول الجامعة بلا امتحان· فتساوى المجتهد والكسلان، وأدى ذلك الى تدهور علمي، وتم بهذا تسييس مؤسسات التعليم·
انتهز الحزب الشيوعي ومؤيدوه الوضع المتأزم، فقاموا بتنظيم قطار السلام لزيارة الموصل وانقلبت الزيارة إلى عمل تأديبي لسكانها، الذين أعتبروا مناهضين للثورة· فكان من جراء هذه الزيارة الشعبية، القتل والسحل والاعدامات الفورية، وتكررت هذه الاعمال في مدينة كركوك أيضاً·
وصل عندئذ الانشقاق والتأزم في الوضع، إلى قيام الشواف بحركته الانقلابية الفاشلة، التي أدت إلى القاء القبض على المشتبه بهم، وبدأت سلسلة من الاعتقالات والتعذيب والاعدام، بعد محاكمتهم من قبل محكمة المهداوي· واعتقل عبدالسلام وأودع السجن، وحكم عليه بالاعدام، إلا ان عبدالكريم قاسم عفى عنه بعد فترة قصيرة·
أدى هذا التأييد الذي حصل عليه عبد الكريم قاسم من قبل اليسار والحزب الشيوعي، الى التغلغل في معظم مراكز الدولة الحيوية لفترة قصيرة، ونشرت حوله هالة من التأليه، وأصبح الزعيم الأوحد وشاهد المنافقون من الناس صورته في القمر عندما كان بدراً، وصدّق البسطاء هذه الروايات· وأصبحت خطبه أكثر رتابة وطولاً من خطب عبد الناصر، وشلّت المظاهرات اليومية المتواصلة الأعمال التجارية والمدارس والجامعات عن العمل·
و تغلغل الانشقاق وطفت الأحقاد بين صفوف المجتمع، واختل التوازن الاجتماعي، فشملت العلاقات العائلية بين الولد وأبيه، وعادى الأصدقاء بعضهم بعضاَ، وغاب المنطق السليم والوجدان في حل الأمور والحوار بين الناس، واختزلت تعقيدات الحياة ومشاكلها بلونين الأحمر والأخضر، وأصبح اللون يرمز للآنتماء السياسي، فاللون الأخضر يرمز للقومي واللون الاحمر للشيوعي، وشمل حتى الاطفال الذين أخذوا يطالبون أمهاتهم ارتداء اللون القومي أو الشيوعي· وامتنع بعض الناس عن أكل الطماطة (البندورة) للونها الاحمر، وعن ارتداء اللون الأحمر، كردود فعل غير عقلانية لمواجهة الشيوعية·
عندما عادت حياة بعد ثورة الرابع عشر من القاهرة، التحقت بكلية الآداب، قسم اللغة الانكليزية، لإكمال تعليمها الجامعي، ألقى الحزب الشيوعي على عاتقها أعمال ومهمات حزبية كثيرة، كانت تنوء تحت عبئها الثقيل أدت بها الى إهمال الدراسة والدوام الجدي في الجامعة· إنها كانت مسؤولة عن تنظيم المظاهرات والتوعية بين الناس، وحضور الاجتماعات الحزبية المتواصلة· بعد بضعة أشهر من النشاط المتواصل بدأ الاعياء يؤثر على صحتها، من قلة النوم والعمل المتواصل· بل كان عليها القيام بواجباتها حتى أثناء مرضها· كانت تمّر بصراع نفسي عنيف لم تبح به بل ظلت صامتة، وشعرت أن الاعمال التي كانت ترتكب غير صحيحة ولا تتفق بما تؤمن به·
بالرغم من الفوضى والاعتداءت التي حصلت في تلك الفترة، فقد شهد العراق درجة من الحرية في إبداء الآراء المختلفة، فسمح بإصدار صحف ومجلات متعددة، تمثل جميع الفئات السياسية، من القوميين والبعثيين والشيوعيين والديمقراطيين· وكانت الصحافة المناوئة لسياسة عبد الكريم قاسم، تهاجمه بعنف مستمر، كما كانت جريدة (صوت الشعب) التي أصدرها الحزب الشيوعي، عنيفة وحدية في مهاجمة أعداء الثورة بلا هوادة·