في رواية "الحدود البرية"، تتميز قصص ميسلون هادي بالقدرة على التكثيف، ولا يمكن لقارئها أن يحس بالخوض في عالم فضفاض. والأبطال في هذه القصص..
أنت هنا
قراءة كتاب الحدود البرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 5
خالد
انعطف السائق·· فانسابت بمرونة شديدة و هي تخترق شارع (14رمضان) باتجاه الطريق السريع المؤدي إلى الرمادي ومنها إلى الحدود· مرت الحافلة بكافيتريات و محال هذا الشارع و كان اغلبها مقفلاً، و تبدو من خلف قضبانه السوداء المتشابكة ملابس ولادية ونسائية مستوردة وإكسسوارات وأحذية رياضية بألوان زاهية وبراقة· ثمة محال قليلة تمرق بين تلك البوتيكات تبيع المواد الغذائية أو بعض التجهيزات المنزلية، وتلك كانت مفتوحة· أما الرصيف المحاذي لتلك المحال فكان يشغله باعة السكائر المحلية والأجنبية من الأطفال والرجال الذين كانوا يفترشون الأرض المتراجعة وهي تجري بهم، مع مرور الحافلة، الى الوراء مانحة كلّ واحد منهم وقفته المستتبة تلك قبل ان تمضي إلى الأمام لتسلم نفسها لقدمي بائع آخر·
مات الحسين شاباً وعطشاناً في كربلاء فأصبحت البيوت تضع جوالق الماء أمام أبوابها تروي بها عطش سابلة الصيف الجهنمي، ثم رحل الشهداء بالآلاف فأصبحت مئات الجوالق الفخارية الباردة، تتخلل الأزقة وقد توشحت بأشرطة سوداء كتبت عليها سورة الفاتحة تارة أو آية من سورة آل عمران تارة أخرى، وتحت كلمات الله أسماء تكتب وأخرى تمحى·· ودائماً أسماء ثلاثية ودائماً تتكون وتذاع وتتلاشى·· مثل قطرات الماء الصغيرة التي تنضح من جدران تلك الجوالق، ثم تدب عليها رويداً رويداً حتى تسقط أو تتبخر·· واليوم يهج الناس من الجوع فتصبح الأرصفة ملظومة بجداريات صغيرة من عارضات السكائر يقف خلفها صبيان مشعثون واجمون كالتماثيل أو رجال انمحى من وجوههم أي تعبير واضح للأمل أو الدهشة أو الحماس، وأصبحوا يقفون خلف علاماتهم الفارقة تلك مستسلمين لقدر غامض أو غريب رمى بهم إلى تلك الأمكنة المبعثرة الصماء· جريان لم يعترضه شيء يوقفة إلاّ عندما ألقم السائق مسجلته كاسيتاً لفيروز فاستغربتُ أن يكون للسائق مثل هذا المزاج في الوسيقى·· ثم أوقف السائق صوت فيروز فجأة وقال شيئاً كان المفروض أن يقوله قبل بدء الرحلة :
- الطريق بين بغداد وعمان يستغرق ست عشرة ساعة· الساعة الآن هي الحادية عشرة، وسنصل عمان في الثالثة من صباح غد بإذن الله·· الحافلة مزودة بالحمام و الماء البارد·· مع ذلك أرجو الاقتصاد باستعمال الماء لأننا لن نتوقف الا بعد عشر ساعات في أطراف محافظة الأنبار·· رحلة سعيدة·
أغلب الركاب سمعوا تلك الملاحظة ولم يعلقوا عليها·· أما أولئك الذين كانوا يستعملون الطريق البري لأول مرة فأطلق بعضهم إشارات تعجب، وصأصأ البعض الآخر متذمراً من طول الطريق·
قال رجل متوسط العمر كان يجلس قرب مسافرة أردنية رمادية الشعر :
- كنا نصلها بساعة واحدة بالطائرة·
فقالت المسافرة الأردنية :
- أستعمل هذا الطريق ذهاباً و إياباً مرة كل ثلاثة أشهر منذ بدء الحظر الجوي على الطائرات العراقية·
فقال الرجل :
- ياه·· كيف تحتملين مشاقهٌُ كل مرة ؟
قالت المسافرة :
- من أجل لحظه الوصول·
قال الرجل :
- الوصول إلى أين ؟ إلى بغداد أم إلى عمان ؟
فقالت المسافرة وهي تبتسم :
- إلى حد ما·· إلى أي حد كان·
الصغيرة ذات الأساور ظلت تروح و تجيء كالقطط· تمد رأسها بين المقاعد وتتطلع إلى وجوة المسافرين، وعندما تجد احداً بسنها تتوقف قليلاً وتفتح فمها ويتبادل الاثنان حركات في الوجه تنم عن الخجل والانفعال تماماً كما تتشمم الجراء الصغيرة بعضها البعض عندما تلتقي في الطريق· قطعت الصغيرة رحلتها باتجاة براد الماء وملأت القدح البلاستيكي الأبيض الذي تحمله ثم عادت إلى مكانها وهي تمسك بالمقاعد أثناء سيرها لتفادي السقوط·
مست أصابعها شعر المسافرة الأردنيه فتأودت المرأة وتأففت وقالت لها بحزم مغلّف بالمرح :