في رواية "الحدود البرية"، تتميز قصص ميسلون هادي بالقدرة على التكثيف، ولا يمكن لقارئها أن يحس بالخوض في عالم فضفاض. والأبطال في هذه القصص..
أنت هنا
قراءة كتاب الحدود البرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
بيان
نمت النباتات البرية والحشائش والأدغال حول شجرة النبق في حديقة المنزل ثم امتدت إلى كاشي المرآب وغطته في عدة أماكن من الحافات، ولم تعد الشروخ السود القديمة التي انتشرت بين بلاطات الكاشي تظهر للعيان·
الشمس تسببت في تمدد البلاطات وخلخلة نظامها، الا أن تماسكها مع الأرض رغم تلك التمددات كان يوحي بوجودها في هذا المكان منذ وقت طويل جداً·· كل شي في المنزل كان يوحي بالقدم·· البلاطات تلك·· والنباتات البريه التي دبت عليها·· وروائح البيت التي تنفثها مروحة المطبخ الكهربائية بين الحين والحين محيلة إياها إلى عذوق حيوات حدثت ثم زالت· تلك البيوت التي يشغلها ساكنوها منذ عهد عبدالكريم قاسم كانت ببالكونات وملاحق للخدم عندما استلمها الضباط الشباب في مطلع الستينات··· والآن لم يعد أولئك الضباط الآباء شباباً، بل تقاعدوا واصبحوا أجداداً ينظرون إلى زوجاتهم اللواتي كن معلمات ذات يوم بوجوم ويقولون : عبالك البارحة··· مشيرين إلى ذلك الزمان الذي استلموا فيه تلك البيوت المشيدة في ضاحية من ضواحي بغداد كانت تعد لشدة ابتعادها عن مركز العاصمة منطقة نائية تصلح لرعي الثعالب والذئاب، لا لتشييد البيوت حتى وإن كانت تلك البيوت ببلكونات وملاحق للخدم· ومع مرور السنوات توسعت عائلات أولئك الضباط وكبر أطفالهم وصاروا شباباً، فتحولت تلك الملاحق إلى مشتملات لسكن المتزوجين من الأبناء، ولم يعد يشرف من تلك البلكونات أحد وتُرك أمرها للشمس وطبقات الغبار· أما السطوح فلم يعد ينام فيها الكثيرون منذ أواخر السبعينيات عندما اندلعت حكاية السفاح الذي أباد بساطوره عوائل بأكملها وحولها إلى أشلاء مقطعة ومكومة في أحواض الحمامات، فأمضى الرجال ليالي طويلة وهم يتبادلون الخفارات لحراسة عوائهم من ذلك الرجل الذي أصبحوا يدعونه أبو طبر ثم هجر الناس تلك السطوح تماماً في مطلع الثمانينات عندما اشتعلت السماء بنيران القذائف والقذائف المضادة لتعلن اندلاع حرب حقيقية كان الناس يعتقدون أنها ستنتهي فور أن تبدأ، ولكنها بدأت ولم تنتهِ الا بعد ثماني سنوات· في الجهة المقابلة للمنزل ثمة بيت فخم يُشيَّد على أنقاض بيت قديم من بيوت الضباط تلك بيع قبل أشهر لتاجر حديث النعمة· يبدو البيت الجديد أنه سيكون واحداً من تلك البيوت الفارهة التي تشبه المسارح بضخامتها وأعمدتها الشاهقة والتي أخذت تلتهم البيوت الوادعة الصغيرة لتكتسح أحياء بغداد المختلفة وتنتشر فيها مثل انتشار العفن في وخمة الوقت الذي توقف عن تنفس الهواء الطلق وتُرك بعيداً عن الشمس لأيد خفية تلعب بمجرياتها في الظلام· الطفل الاشعث المتسخ كان لا يزال واقفاً ينظر من باب المرآب الموارب إلى الأرجوحة الفارغة التي تركها قبل قليل· لمحته بيان من نافذة المطبخ وتوقعت أن يقرع جرس الباب في أية لحظة، الا ان ذلك لم يحدث·· تراجع الطفل بعد قليل وهو يلمح امرأة تخرج من المنزل المجاور وتتجه إلى حيث يقف·· نظرت اليه المرأة باستغراب ثم قالت له :
- أتريد شيئاً ؟
رن جرس الباب داخل البيت، فهرعت إليه بيان وفتحته· قالت رحاب قبل أن تسلم عليها :
- لماذا تتركين باب المرآب مفتوحاً ؟
قالت بيان :
- نسيته·
ثم سألتها :
- مكتبتك مقفلة هذا اليوم·· هل أنت في إجازة ؟
قالت بيان :
- قولي صباح الخير أولاً·
ضحكت الاثنتان وقبّلتا بعضهما البعض، ثم تحسرت بيان بعد أن ضحكت، وتلك عادة لازمتها منذ سنوات، ولم يُنقذها من تلك العادة جريان الوقت الذي يسوق النسيان معه وهو يمضي ثم يفيض به على الجميع· نظرت رحاب إلى المرآب من نافذة الغرفة وقالت:
- هذا الطفل، ماذا يريد ؟
قالت بيان :