رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.
قراءة كتاب امرأة القارورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
قبل معجزة انتقالي إلى (جنيف) كنت امضي سنتي السابعة في جبهة الأهوار· بعد فشل محاولة فراري السادسة، رموني هنا وقالوا لي :
ـ انت هنا لن تحارب، إنما عليك ان تشبع بطون المحاربين· رصاصات البندقية لن تنفع دون رصاص الطعام الذي ستحشو به بطونهم
كنت لا اريد من حياتي غير السكينة والنوم· وبينما خطوات العسكر تضرب في رأسي، كنت اتوهم اني لن أستيقظ إلا بعد أن يكون العالم قد غط في نومه الأبدي·
كان مطبخنا قاعة كبيرة في أعماق الأرض· جدارها الصخري مليئاً بنقوش أثرية لملوك قدماء وهم يصيدون ويقتلون ويتسلمون شرائع ويخوضون حروباً ويتناسلون· بجانب حوض غسيل الصحون اتكأ على الجدار نصب امرأة بالحجم الطبيعي· كانت واقفة بشموخ وهي تمد اليد اليمنى بقارورة صغيرة بحجم كأس، وقد التفت على ذراعها اليسرى أفعى، محشور رأسها بين نهديها· سمعت الجنود يقولون إنها قاعة ملوك قدماء عثروا عليها في اثناء حفر الخنادق·
وكرر أحدهم حكاية (ملاّ يوسف) عريف المطبخ، عندما تلمس لحيته المصبوغة بالحناء، وتعوذ من الشيطان، وكشف لهم سر هذه القاعة، محاولا أن يضفي على لهجته الجنوبية بلاغة اللغة الفصحى· قال:
ـ إنهم ملوك شعب من الزناة، لم يفرقوا بين عشيقة وأخت وأم، فلطشهم الله على الحجر، وها هي آثارهم عبرة لمن يراهم· أما هذه التي ترونها أمامكم فهي ملكتهم وأمهم وعشيقتهم جميعاً· منها تعلم البشر الفسق، وقد صنعها الشيطان من لحم الأفعى التي تنكر بها لإغواء آدم وحواء، لتكون أول غاوية في التاريخ· نجحت في إغواء حتى الأنبياء والحكماء، منذ قابيل وهابيل وإبراهيم وسليمان ولوط ويوسف، ولم يقف بوجهها إلاّ (الإمام علي) الذي عندما عرضت عليه جمالها غضب وضربها بسيفه (ذو الفقار) هنا قبل أن تهرب
صَمتَ (ملاّ يوسف) مرتعباً وهو يشير إلى أثر الجرح الذي تركه السيف على امتداد بطنها كفطر طويل غير مرئي يشبه الجرح، امتد من العنق حتى اسفل البطن· ثم بعد أن استغفر وتعوذ وبسمل استطرد بحكايته عن كيف أنزل الله عليها عقابه ومسخها مع عشاقها وأسلافها إلى حجر، إذ ضجت الأرض والسمـاوات بأدعية المؤمنين وشكـاواهم ليخلصهم الله من فسقها· أغمض (ملاّ يوسف) عينيه، وفرك مسبحته السوداء، واتخذ وجهه المحروق بالشمس والحرب هيئة بلوطة ناضجة، وكشف السر الأكبر:
ـرغم تحولها إلى حجر فإنها ما زالت قادرة على التأثير على القلوب والاستجابة لنذور العشاق وأتباع الغواية·
صحيح أن الكثير من الجنود قد سخروا من حكايتـه بإعتبارها محض خرافات، وادعوا أن هذه القاعة ما هي إلا آثار من بقايا ملوك سومر واكد· لكن الزمن كان يبدو لصالح تصريحات (ملاّ يوسف)، إذ مع مرور أعوام الحرب وما تخلفه في قلوب المحاربين وابدانهم من جروح وعاهات وكوابيس ونكبات، شاع بينهم ما يشبه طقوس التقديس لتمثال هذه المرأة التي راحوا ينادونها بـ(سيدة القارورة)! لم يقتصر الأمر على مصدقي الخرافات والمتدينين وحدهم، بل حتى المعتنقين لمبادىء علم وحداثة· جميعهم ساهموا دون قصد أو بقصد في خلق نوع خفي من الطقوس الصامتة والسرية أحياناً من دون أن يدركوا بالضبط من هو المسؤول!
هكذا كأنهم ورثوا هذه الطقوس عن أسلافهم، فترى التمثال قد استحال مع الزمن إلى لوحة خط عليها الجنود كلمات عشقهم وشتائمهم وحكمهم ورسومهم الفاحشة· الفنانون منهم، فطريون وأكاديميون، كانوا يلطخونها بألوان إبداعاتهم المتنوعة، وقد رسموا لها ثوباً شفافاً تبرز منه جميع تفاصيل جسدها حتى المخفي منها عادة في عريها· يوماً تراها شقراء كممثلة خليعة بعيون زرق أو خضر حسب زاوية النظر، بعدها بأيام ينهض احدهم وهو ثمل ويحيلها إلى سمراء بعيون داجية وشفاه راقصة غجرية·
في شهر رمضان وأيام عاشوراء وعيد نيروز يعمد الجنود إلى إضفاء الوقار عليها وغسل المكياج عنها وإلقاء نوع من الحجاب الأسود الشفاف عليها، فتبدو كأمّ حزينة· وفي أعياد الفصح ورأس السنة، يعمد الجنود المسيحيون إلى إضفاء بعض الألوان الخفيفة وإشعال الشموع في قاروتها وفي فم أفعاها وعلى نهديها ثم تنثر عليها أغصان الآس والزيتون لتصبح أشبه بعذراء سريانية· خلال سبعة أعوام قد زين الجنود عنقها ورأسها وذراعيها، بل حتى كاحليها، بأنواع من مزق قماش أخضر وحُلي رخيصة، بعضها صنعوه بأنفسهم من أسلاك دبابة إيرانية محطمة·
لقد شاء القدر أن تكون لي هذه المرأة ملجأً وحيداً، استمد من وجودها بقربي ذلك الدفء اللذيذ الذي ما عرفته إلا أني أدركت وجوده الغامض· فرشت بطانيتي قربها على الأرض، وجعلت وسادتي بين قدميها، وأمضيت جميع ليالي سنتي السابعة وأنا أرقب هيبتها وأتنصت إلى دقات قلبها حتى أغفو· في بعض الليالي عندما تشتد وحدتي بين رعب القتلى والجرحى والمنتحرين، كنت أغافل الجنود وهم نيـام لكي أحتضن معبودتي وأهمس لها بعذاباتي وبأسرار محاولات هربي الست التي لو علم بها قادتي لاستحق علي حكم الاعدام ست مرات متتالية· وكانت هي تواسيني خِفيَة بعينيها وتهمس لي بكلماتها·
إني على يقين من أني وحدي بين الجنود وافقت المرأة على ان تكشف لي أسرارها· قالت إن حكاية (ملا يوسف) هي شذرات من حقيقة، أما جوهر الحقيقة الذي لم يكتشفه أحد غيري فهو أن التي مسخها الرب إلى تمثال هي شذرة من وجود أعظم·· شذرة من روح أنثى شاملة تمكث حية في شهوات الرجال·
أخبرتني بسر لم يكتشفه قبلي إلاّ القلائل :