رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.
قراءة كتاب امرأة القارورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 10
راح (آدم) يتفحص بدنه والأشياء حوله، عله يتيقن من حقيقة وجوده وعدم غوصه في وهم· فتح فمه وأصغى إلى صوته، انطلق كصراخ مكتوم في كابوس خانق :
ـ من أنتِ؟!
جاءه صوته نشازاً كأنه يسمعه عبر مذياع· انه في اعماقه، لم يكن ينتظر جوابها، فأحس بنوع من الأسف من سؤاله خوفا من ان يكون صوته سبباً في اختفائها· لكن شكوكه بواقعية ما يحدث امامه قد تعززت عندما رآها ترمقه بعينين خمريتين، وتفتح شفتيها وتتكلم بصوت ذي نبرات حلوة كضحكات طفل، وحادة ذات رنين كقعقعة سيوف:
ـ أنا ياسيدي منذورة لك ولذريتك· أسلافك جميعهم امضوا شطراً من حياتهم معي··· كنت عشيقتهم السرية ورفيقتهم في ملذاتهم وانتصاراتهم، وفي متاهاتهم ونكباتهم وساعات احتضارهم· آخر رجالي كان أباك، ورثني عن أبيه وأسلافه·· منذ قرون لا تحصى وأنا أمضي خلودي في هذه القارورة، يتوارثني أبناء عن آباء· من يمتلك قارورتي يمتلك أسرار روحي وجسدي···
ظل مبهوتاً، وقد تدلى لسانه في فم فاغر! كل شيء كان يمكن أن يخطر على باله إلا هذا···! إمرأة خالدة الشباب والجمال طوع أمره ولإرضاء ملذاته! الآن فقط قد رأى بأم عينيه حورية أحلامه التي استقرت في أعماق طفولته· كان (آدم) عكسي، توقـه إلى الموت يمتزج بلذة خلود روحه في الجمال المطلق، بينما انا خوفي من الموت يذوب في ارتعاشات الجسد وملذات الحياة· كم مرة منعته من الإنتحار ليتخلص من جسده الفاني وليطلق عنان روحه نحو أعالي كون متسام عن وضاعة الدنيا ودونيتها! وكم مرة منعني هو من ارتكاب خطايا تبتغي الإنتقام من المسؤولين عن بؤسي·
استطردت المرأة بعد ان وجدت منه الصمت:
ـ تمهل واسترح··· هاك تلمسني وتيقن مني· إني بأجمعي لك فلا تخشني· دعني أدنو منك لأمسح عنك غبار العمر بحكاياتي عن أسلافك· هم كانوا ماضيّ، وأنت الان حاضري، وذريتك مستقبلي·· ديمومة نسلكم سر خلودي و···
وانقطع كلامها بصوت (مارلين)· كانت تهبط درجات القبو وهي تنادي على (آدم) أن يستعجل قبل فوات موعد القطار· تلبك في حيرته وكاد يصرخ بزوجته أن تأتيه لتشاركه المعجزة، إلا أن المرأة ارتمت عليه بسرعة مستغيثة به هامسة أن لا يفضحها·· حياتها له وحده وكشفها للآخرين يعني نهايتها· قالت إنها ستعود إلى قارورتها حالاً، وعندما ينوي لقائها يكفيه أن يفتح غطاء القارورة فتخرج له· ثم أغمضت عينيها وكورت نفسها حول القارورة كأفعى في لهيب· طفق جسدها يتلوى ويهتز ويتمطى ويتقلص، ثم غابت في القارورة مثل زوبعة ابتلعتها صحراء في حلم صامت·
طبعاً، أنتم تتوقعون ما يمكن أن يقوم به صاحبنا· في اليوم نفسه وصل مع زوجته إلى قرية (ناندا العليا) الراقدة بين قمم الألب المثلجة· بعد منتصف الليل تسلل تاركاً اياها نائمة في المنزل الجبلي· حمل حقيبته السوداء الصغيرة حيث تختبىء القارورة، ووضع تحت إبطه سكينة مطبخ، تحسباً للمفاجآت السيئة· مضى خارج القرية يطبش بين ثلوج ذاب بعضها بأشعة شمس عابرة·
بلغ باحة مرتفعة ينتصب في وسطها عمود بث تلفزيوني· كانت باحة مفتوحة وآمنة ونظيفة ومتنعمة بنور تتخلله التماعات حمراء قادمة من قمة العمود· أخرج القارورة من حقيبته ووضعها على حافة السياج الإسمنتي المطل على الوادي· اختار هذه النقطة ليسهل عليه عند الخطر دفع المرأة من الحافة لتسقط في أعماق الهاوية· كانت السكين بيده بينما أصابعه تجهد لفتح الغطاء· عادت إلى قلبه ارتعاشات اللذة باللقاء المرتقب، والرعب من أن مارداً جباراً قد ينبثق ويمسك به من شعره ويرميه كحجر في اعالي الفضاء!
انفتح الغطاء، ونفدت إلى أنفه رائحة انثوية مألوفة، واندفع فحيح خافت! تراجع (ادم) بعداً عن السياج وقبضته تشتد على السكين·· ثم، هكذا، عارية متوهجة وقفت أمامه من جديد، كما لو أن يداً إلهية خفية متمرسة بنحت الثلج والقمر قد امتدت وصنعت تلك المرأة العجيبة!
هيئتها وصوتها بثا تراخياً في قبضته···لأول مرة في حياته تدمع هكذا عيناه ليس حزنا ولا فرحا، بل انبهاراً!
ـ د··ثر·· ني··· ارجوك··الثلج يؤذيني··
عندما أدرك أن نبرات الصدق في صوتها موشاة بنغمات مريبة مغرية، تفاقم تردد مشاعره بين شيمة شجعان وحذر مخدوعين· في أثناء ارتجافتها كانت المرأة تقترب منه منسابة على أطراف قدمين حافيتين، جاعلة الحصى الناعم يصدر صوتاً كحفيف حيوان زاحف· راحت بهدوء تلقي بذراعيها على كتفيه، واضعة قدميها على حذائيه حتى التصقت به· آنذاك فقط،خضع (آدم) لشيمته وخلع سترته الجلدية ودثرها بها· أحس بعريها عندما امتدت كفاه دون قصد إلى ردفيها· لم تنتابه رعشة لذة بل رعشة ترقب وتساؤل، كصانع مبتدىء يتفحص بضاعته· كان ينصت لأنفاسها المتقطعة ويتساءل إن كانت أنفاس برد أم شهوة· عبقت في أنفه رائحة شعرها خليطا من حناء وأنواع عطور شعبية شائعة لدى ريفيات الوطن· لعن في سره نساء بلاده· راودته أحاسيس هي مزيج من ضغينة وأخوة، تنتابه في كل مرة يلتقي بإمرأة قادمة من الوطن·