قراءة كتاب امرأة القارورة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
امرأة القارورة

امرأة القارورة

رواية "امرأة القارورة"، للكاتب العراقي سليم مطر، على الرغم من أن هذه الرواية قد لا تكون "رواية" بالمعنى المتعارف عليه.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6
بقيت هائماً بين جبال وغابات أياماً لم احسبها، اقتات على أعشاب وثمار، وأتحاشى البشر وقد تمزقت عني ثيابي وصار لوني بلون الأرض· كنت ملتزماً صمتاً مطبقاً لكي أصغي جيداً إلى حوارات صاخبة جارية بين حشود بشر روحي· رغم كثرتهم فإني كنت أراهم حشدين متجابهين في جدال يمزج بين خصام وتفاهم، واحد من حكماء وآخر من معتوهين، وجميعهم قد اثملتهم الأحداث وانهكتهم·
 
ذات نهار ربيعي عثر علي أحد الرهبان· كنت مستلقيا في غدير، والماء يغطيني حتى أنفي· عيناي مغمضتان وأنا أصغي إلى صخب حكمائي ومجانيني ممتزجاً بخرير الماء· فتحتهما لأرى مصدر صوت بشري صدح في الوجود· عبر الماء الشفاف، شاهدت وجهاً نورانيا مرسوما على صفحة السماءٌ!
 
لم اتحرك، كنت أنظر إلى الوجه وأنا في خدر ولا مبالاة مطلقين· كنت أحس بنفسي في انفصال عن الواقع، كأني في ذاتي طائر غير مرئي أحوم مراقباً حشود حكمائي ومجانيني وهي تضطلع بعملية إدارة بدني على الأرض·
 
قادني الراهب إلى ديره القريب من مدينة الموصل، وهناك اطعمني وآواني· كنت امضي وقتي بمشاركة الرهبان في تراتيلهم، وحينما اشعر بالملل كنت اصعد الى السطح حيث تنتشر اعشاش طيور اشاركها مناجتها·
 
عرفت ان راهبي ينادونه(عمو توما)، لكنه لم يستطع ان يعرف مني اسمي، فراح يناديني بـ (آدم)! رغم انه كان يتميز ببشرته الحليبية وشعره الفضي، الا انه كان يشبه في شخصيته كثيرا (الشيخ ابو يحيى) الذي التقيته في البادية· ظل راهبي الطيب حتى يوم فراقنا في حيرة أمام نحيبي كلما صدحت في الدير تراتيل الرهبان· والحقيقة أني لم كن أكثر معرفة منه بذلك!
 
اتى اليوم الذي أمسكني فيه العسكر قرب الدير· فشل (عمو توما) في تخليصي· لم تكن بحوزته أية أوراق تثبت هويتي· كبلوني ولم يكلموني بعد أن عرفوا بخرسي وخبلي· قادوني من موقف إلى آخر ومن معسكر إلى آخر وهم يعلفون بي بلا سؤال· بعد أيام، أتاني ضابط ذو صوت طفولي غير منسجم مع وجهه المكون من شارب فاحم كث وبضعة ثقوب اقل وضوحاً من النجوم الملتمعة على كتفيه· تحسس بعصاه لحمي وهز رأسه إلى (رئيس العرفاء)· أدركت أنه أمر بضمي إلى القطيع·
 
ذالك اليوم، أعادوني إلى الجبهة بعد ان رموني في الحمام وحلقوا شعري وألبسوني بدلة عسكرية مرقمة ثم حشروني في الشاحنة بين الارزاق· منذ ان وصلت قبل اشهر إلى هذه القاعة المحفورة في الأرض، وأنا يوماً بعد يوم أرقب بحذر انتفاخ بطن تمثال (سيدة القارورة)! كنت في أثناء صمتي وخرسي المخبول، ارقب عيون الجنود لأقرأ فيها ما يعبر عن شكوكهم فيما يخص انتفاخ بطن المرأة· لعلهم كانوا يتحاشون الفضيحة لأنهم كلهم مشتركون فيها مثلي! لا ادري ماذا سيفعلون حينما يأتي اليوم الذي سيصبح فيه من المستحيل إخفاء الأمر، ثم من يعلم أي مولود سيخرج من بطن مجروح بسيف؟
 
ذات ليلة من شهر شباط 1988، وبعد مرور تسعة أشهر على وجودي معها، كنت احدق في البدر المتوهج من فتحة في الجدار خلف رأس المرأة· كنت أشكو لها حيرتي أمام مصيري المجهول بعد ان فشلت جميع محاولات هربي الست· كنت وحيداً بين آثار اسلاف من الزناة، أخرس، اطرش، فاقداً للذاكرة· أهمس لها بصلوات الرجاء لتعينني على الخلاص من عالمي هذا· لتنقذني إن كانت هي حقاً سيدة وجودي وصانعة حياتي من حلم ارتعاشتها· كيف لي أن امضي العمر وانا لا احمل في دمي غير ذكريات سبعة اعوام من حروب وتيه بين أهوار وبواد وجبال من أجل فرار من جحيم حاضر نحو عالم سام ومجهول؟
 
كانت حشود حكمائي ومجانيني تدفع بجسمي نحو التمثال وتشدني إلى أحضان المرأة وكأني أكاد ألتحم بها وأغور في دواخلها· فجأة اهتزت القاعة بإنفجارات متتالية امتزجت بأصوات الطائرات وصرخات الجنود· عندما انهار السقف وتعالت من اطراف القاعة صرخات الأصحاب، ميزت بينهم عريفنا (الملاّ يوسف)·
 
في الوقت الذي أخذت فيه الأحجار فوقي بالإنهيار، كنت أكور نفسي على صدر المرأة، ورحت بالتدريج انزلق في فجوة أحضانها· انهارت صخور بطنها من جرح نازل من العنق حتى أسفل البطن وإنكشف نفق عجيب يمتد من جذعها إلى أعماق الأرض خلال الجدار!
 
أجهل حتى الآن كم من زمن قد مر علي وأنا أزحف بين متاهات أنفاق قادتني إلى عوالم وعوالم عشتها خلال آلاف الأعوام· كأني استحلت إلى طاقة من نور، أطوف بين عصور وأوطان وأقوام· مئات المرات إنولدت، ومئات الشخصيات عشتُ ومن ثم مت· أمضيت حُقباً وحُقباً من تاريخ رعشتها، وكانت هي صانعة حيواتي وحافظة نسلي ومديمة تناسخي في تلافيف حلمها· حتى وجدت نفسي أخرج من بين صخور شواطىء بحيرة (جنيف)·
 
ليست معجزة انتقالي وحدها ما يثير عجبي، إنما كذلك ادعاء سيدة الحانة أني صاحب مخطوطة هذه الحكاية، وأني نسيتها عندها منذ أيام، وأنها تعرفني من رواد الحانة منذ سبعة أعوام، وأني غريب الأطوار، وأني وأني··· ولم أعقل منها كلمة واحدة، لأني بكل بساطة لم أكن هنا أبداً ولم أعرف هذه المدينة إلا منذ أيام، ولقد أمضيت السنوات السبع السابقة في جبهات الحرب والفرار، بدليل أني لا أتذكر سواها لأني عشتها هي وحدها لا غير·
 
لكي اجنبكم متاعب شكواي وإسهابي، اعرض عليكم الحكاية، كما وجدتها في المخطوطة، لتحكموا أنتم بأنفسكم·

الصفحات