المجموعة القصصية "منعطفات خطرة"، للكاتبة والفنانة التشكيلية الأردنية بسمة النمري، الصادرة عام 2002 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجوائها:
قراءة كتاب منعطفات خطرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
منعطفات خطرة
الصفحة رقم: 9
سُطورٌ على الحيطانْ
وصلتُ إلى المنزل أخيراً، لم يكن ذلك سهلاً، إذ أن الخارطة التي كانت بحوزتي لم تكن منسجمة مع الواقع تماماً، المهم أنني في النهاية قد وصلت إليه· ظهر المنزل أمامي فجأة حين أنهيت ارتقاء التلّ التي تقع على أحد مشارف المدينة· ركنت سيارتي إلى جانب الطريق ثم وقفت على رأس التلَّ أتأمل المشهد الذي انبثق أمامي فجأة· ممرٌّ ضيقٌ يتفرع من جانب الطريق ثم لا يلبث أن ينحدر متعرجاً حتى يصل إلى باحة المنزل، وعلى جانبيه تمتد أرضٌ بكرٌ تتناثر عليها حجارة بيض تصغر حيناً وتتجمع على هيئة حصىً صغيرة، أو تكبر فتصبح كتلاً ملساء تغري المار بها على لمسها والاستمتاع بالرطوبة المحببة المنبعثة منها، وبين هذه وتلك تتوزع النباتات الطبيعية بحرّيةٍ وانطلاق، إذ لم تعبث بها أيدٍ بشرية تنظمها بطريقة مصطنعة فتفقدها بساطتها وفوضويتها العذراء· كان المشهد باختصار ساحراً مثيراً إلى أقصى حد، أو هكذا بدا بالنسبة لي على الأقل·
وصلتُ إلى باب المنزل، وقفت أمامه خاشعة، كل ذاك الجمال الذي مر بي جعلني محتاجةً إلى هنيهات من الصمت والسكون كي استوعبه واستعدّ لما يليه· جلست على عتبة الباب في ظل شجرة وارفة كانت أغصانها ترتفع عالية بمحاذاة المنزل، حتى أنه كان من السهل على متسلقها أن يصل إلى سطحه دون عناء، ومن أحد تلك الأغصان تدلت حبال أرجوحةٍ كان مقعدها الخشبي الصغير يهتز جذلاً كلما داعبته نسمة هواء· أغمضت عيني لحظةً ثم فتحتهما وعدت أتملَّى المشهد من جديد، إنه تجسيد واقعي للوحات كنت أقوم برسمها من وحي خيالي وأنا طفلة صغيرة··· البيت الصغير ذو النوافذ المزخرفة والأبواب التي تعلوها أقواس من الحجارة المنقوشة، ·· الأشجار المحيطة به،·· الطريق الممتدّة أمامه إلى المدى البعيد،·· الأزهار البرية والسهول تليها التلال التي تختفي نهاياتها في أفقه البعيد· بقيت البئر، حتماً لو درتُ حول المنزل لوجدتُ خلفه البئر المسوَّرة نفسها وإلى جانبها يستقر الدلو المربوط بحبلٍ طويلٍ يستلقي بكسلٍ على العشب الندي·
تناولت المفتاح من حقيبتي، صرير الباب كان يشي بحزنه وشكاته من طول الهجر والإهمال، فتحتهُ برفقٍ وتأنٍ وأنا أعضُّ على شفتي، فقد لمست روحي عذابه· اندفعت أشعة الشمس عبر فتحته فأضاءت الردهة الفسيحة أمامي، خطوت إلى وسطها ودرت حول نفسي أتملّى المشهد من زواياه المختلفة·· مثلما تخيلته بالضبط· أسرعت إلى النوافذ أشرعها، الواحدة تلو الأخرى، أخذتني كل تلك التفاصيل الصغيرة وتركتني مبهورة، إذ كان في هذا المنزل شيء ما يختلف عن باقي المنازل التي عاينتها من قبل، شيء لم أدرك كنههُ، لكنني أحسست به· أعرف أن ما فكرت فيه كان ضرباً من الجنون، لكن المنزل كان حيّاً وبه أصداء تتردَّد، إنها لا تُسمعُ بالأذن، لكنها موجودة، تستشعرها الروح ويفرح بها الوجدان، كان المنزل يحسّ ويشعر، لقد سعد بقدومي إليه، استقبلتني نوافذه بشوق غامر، كأن دفتا كل واحدةٍ منها كانت ذراعين مفتوحتين تنتظران بلهفة لحظة احتضاني، وجدرانه لم تعد صُمّاً باردة، إنها تشع الآن حنيناً دافئاً ينفذ إلى أعماق نفسي فيضمُّها ويحتويني·· يا للمنزل الرائع،·· يا للمنزل الرائع الحبيب··· مضيتُ إلى حيطانه أمرر عليها يدي برقةٍ وحنان، وأصابعي تلاحق الخطوط التي حُفرت عليها· ضحكت ملياً حين رأيت الصور التي كانت تعجُّ بها حيطان إحدى الغرف، حتماً كانت تلك غرفة الأطفال··· هنا جملةٌ تصف أحدهم بأنه جاهل وغبي، وإلى جانبها رسم يمثل وجه طفل له أذنا حمار·· على الحائط المقابل خرابيش بالألوان الشمعية، حزرتُ أنها لطفلٍ لم يتجاوز السنة الثالثة من عمره، تليها محاولات جادَّة لكتابة بعض الحروف الهجائية والأرقام، فخمنتُ أنها لتلميذ مجتهد في سنته الدراسية الأولى!·· أما الغرفة الأخرى فكان جدارها يوحي بأن صاحبتها مراهقة غاية في الرِّقة ورهافة الإحساس، إذ اكتظت زاوية منه بأبيات شعرٍ عاطفي، وخطوط أخذت شكل قلب يخترقه سهم تناثرت على جانبيه بعض الأحرف التي ترمز مؤكداً إلى أسماء أصحابها، إضافة إلى تواريخ وأسماء أيام ورموز لم أفهم معناها·