كتاب "سنوات الضياع: سيرة صفد تاريخاً و شعباً"، الذي اهداه الكاتب علي الصفدي لروح والده، قائلاً: الى روح والدي رحمه الله التى حلقت معي عبر الصفحات القادمة، وقفزت منها الى موقع الأحداث التى تدور حولها، الى اجواء مدينة صفد تأبى مبارحتها كما بارحها جسده قسرا، و
أنت هنا
قراءة كتاب سنوات الضياع
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
فالخروج بهم سالمين هو دافعهم الأساس لهجر موطنهم الى أجل محدود.
لقد أمضت مدينتهم والقرى المجاورة لها في العاشر من أيار عام 1948، ليلة ليلاء من أطول لياليها على الإطلاق، وأحلكها سوادا، وأثقلها ضغطا على النفس، وأكثرها تحطيما للأعصاب. فقد هاجمتها وحدات البالماخ الصهيونية بوحشية لم يسبق لها مثيل في أعقاب استيلائها على القرى المحيطة بها ، وقصفتها بقنابل البراميل ومدافع / هاون ( دافيدكا) وراجمات الألغام ذات الصوت الانفجاري المرعب الذي هزّ المدينة بعنف واغتال سكينتها ، وتزامن مع قصف تدميري متواصل ونسف تخريبي لكل بيت يقع في أطرافها وهجوم مركز على قلعتها. واستخدمت البالماخ في عدوانها كل أنواع الأسلحة المتطورة المتوفرة لديها ، مما أسفر عن سقوطالقلعة الرمز بعد دفاع مستميت غير متكافئ عنها أقتصر على نفر مؤمن من أبنائها دون سواهم. فقد وجدوا أنفسهم يقاتلون وحدهم ببقايا أسلحة مهترئة لا فاعلية لها ولا تأثير ، دون أي إسناد أو مؤازرة من أية جهة كانت بعد انسحاب كتيبة جيش الإنقاذ والمتطوعين العرب من خطوطها الدفاعية قبل بدء الهجوم. فحاول الفتيان الصمود والتصدي للهجوم الزاحف أليها بكل ما أوتوا به من قوة. ولم يتمكنوا من ذلك رغم أنهم قاوموا حتى آخر لحظة من حياتهم ، فاستشهدوا جميعا وكان عددهم تسعة وتسعون شهيدا حفرت صورة بطولتهم وتضحياتهم بأرواحهم في أعماق الذاكرة الشعبية لمواطنيهم، وفي سجل مقاومتها الباسلة ضد الاحتلال الصهيوني.
وتزامن الهجوم العسكري الميداني الكاسح الذي أطبق على مدينتهم مع شن حرب نفسية رهيبة ضدهم استخدم اليهود فيها سيارات الجيب المزودة بمكبرات الصوت أذاعوا من خلالها تسجيلات لأصوات احتوت صراخا وعويلا وأنينا حادا يصدر عن نساء، وزعيقا لصفارات الإنذار ورنينا لأجراس سيارات الإطفاء يقاطعها صراخ مذعور ينادي باللغة العربية بصوت مرتعش متهدج "يا جميع المؤمنين ...انقذوا أرواحكم واهربوا وانجوا بحياتكم ، اليهود يستعملون الغاز السام، اسرعوا في الفرار ناجين بأنفسكم على اسم الله. وما أن سمع المواطنون تلك النداءات والاستغاثات والصرخات حتى ارتعدت فرائصهم، وارتعشت أجسادهم، وتجمد الدم في عروقهم ، ونهش الهلع أكبادهم، واتسعت حدقات عيونهم فغشيت أبصارهم. فماذا عساهم فاعلون؟ لقد أصبحوا كطير ذبيح يصارع الموت وحده، بعد أن تخلت القوى المدافعة عنهم في أحلك الظروف وتركتهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم لا أسلحة ولا ذخائر لدى رجالهم ولا طاقة لهم على مجابهة قوات البالماخ الزاحفة إليهم كالقضاء المستعجل ، والمطبقة على مدينتهم من كل جانب. هل يموتون تحت الأنقاض أم يحترقون تحت نيرانالقذائف المتساقطة عليهم ، أم يموتون خنقا بالغازات السامة التي يستخدمها الغزاة؟ تساؤلات أقضّت مضجع كل واحد منهم، وقلبت كيانه، وأربكت عقله، فكان صوتها أعلى بكثير من أصوات القصف الرهيب . لقد أصيب تفكيرهم بالشلل وتهاوت أجسادهم وتحولوا الى أشباح ساكنة لا حراك فيها ولا حياة . فكيف انتهت بهم تلك الليلة اللعينة؟ بل كيف بدأت؟ وكيف مضت ساعاتها ودقائقها؟ لا أحد منهم يعلم. لقد وجدوا أنفسهم منساقين في تدفق جماعي بإعصار أهوج صبيحة ذلك اليوم المظلم الذي لم يبزغ فجره ولم تشرق شمسه بعد، والذي شكل منعطفا حادا لمجريات حياة كل واحد منهم. ذلك اليوم الذي اطلقوا عليه اسم " يوم الاثنين الاسود" المحفور على لوحة من ألواح التاريخ القاتم ليوم الحادي عشر من أيار النكبة. هاموا فيه على وجوههم كالسكارى وما هم بسكارى، واستوطن الحزن والأسى والضياع أعماق نفوسهم ، واعتصر الألم والشقاء ثنايا قلوبهم، فاختل توازنهم حتى ضاع الطريق من تحت أقدامهم.