في كتابه "مذكراتي نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية"؛ يكتب المؤلف في خاتمة مؤلفه هذا: "لقد حرصت في تدوين مذكراتي هذه على تسجيل ما قمت به بنفسي، أو اطلعت عليه بصورة مباشرة، بحكم اضطلاعي بمناصبي ومسؤولياتي فقط، دون سواه، توخياً للحقيقة المجردة، وتفادياً
أنت هنا
قراءة كتاب مذكراتي نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
مذكراتي نصف قرن من تاريخ العراق والقضية العربية
الصفحة رقم: 6
الخطة العراقية
إن ما نطلق عليه اسم (العراق) اليوم كان معروفاً في لغة السياسة العثمانية بـ(الخطة العراقية)؛ وقد كانت مهجورة بعيدة عن كل عمران، وكانت الوسيلة الوحيدة لاتصالها بالعالم هي العاصمة (استانبول)
واستانبول في نظر العراق ليست العاصمة فحسب، بل إنها كانت القدوة والباب الذي كانت تلج منه مدنية أوروبا إلى الشرق، وإن كانت الهند وسيلة ثانية لاتصالها بالعالم الخارجي، لكنها كانت على كل حال ثانوية· وكان البريد ينقل من العراق إلى الخارج بثلاث طرق:
البحر، والصحراء بواسطة الهجين وكانوا يسمونه طريق الساعي، والتتر بواسطة الخيل بطريق الأناضول، وكان أقصر طريق للوصول من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط طريق الساعي، الذي يسلك من بغداد إلى دمشق فبيروت - وإن اعتبرت هذه الطريق غير مأمونة ولا يطرقها إلا المستعجل المضطر· وكم من الناس من ضلّ طريقه فيها وهلك عطشاً وجوعاً· ومهما كانت الطرق الأخرى مأمونة العواقب فإن الوصول من العراق إلى البلاد العثمانية كافة، كان يتطلب قضاء ثلاثين يوماً على الأقل· ومع أن التركي العثماني يعتقد بعظمة بغداد وحسنها وخصب تربها ويعتبرها مباركة؛ إذ يقول المثل التركي السائد: (لا صديق أحسن من العرب، ولا ديار أحسن من بغداد) مع ذلك فإنه يعتقد بأنها كانت منفى لرجال الدولة المغضوب عليهم من السلطان، ولم يكن للولاة المستغلين الذين حكموا بغداد منذ مئات السنين إلا ارتباط بسيط باستانبول، حتى إنهم كانوا بحكم الواقع غير خاضعين لها· وقد بدأت بغداد تظهر كمنفى لرجال السياسة العثمانية منذ عهد مدحت باشا حتى سنة 8 0 9 1، حيث وجد فيها المشير نصرت باشا، والمشير رجب باشا، والفريق كاظم باشا، واللواء صبري باشا، والفريق موسى كاظم باشا، واللواء نجيب باشا، والفريق محمد باشا الداغستاني، وكثير من الباشوات الآخرين، من عسكريين وغير عسكريين·
وكانت الحالة السياسية في هذه (الخطة) المنكودة على أسوأ ما تكون من التذبذب والانهيار· فالباشوات المنفيون يغتصبون أموال الناس وأملاكهم بالقوة، ويأخذون الأرض ويتملكونها من أصحابها بدون ثمن، والموظفون الآخرون يتفرجون على ما يجري حولهم من مآسٍ في البلاد ومن رشوات وفساد في كل محل· والرواتب الشهرية كانت لا تدفع إلا مرة أو مرتين في السنة، وما يتبقى للموظفين في ذمة الدولة لا يمكن تحصيله منها إلا بأنواع المداورات والتزلفات· أما حالة الجيش فأسوأ من الكل· فلا كساء ولا غذاء ولا راتب ولا انضباط ولا سلاح ولا تجهيز· وكان الجندي الخفر الذي يقف بباب الثكنة العسكرية أو في محل عسكري آخر يرتدي شفاً أو (بطانية) من الصوف يتغطى به في الليل عندما ينام، ويضعه على كتفه عندما يقف في الحراسة الرسمية لأنه لا يملك بذلة يرتديها أو معطفاً يدفىء جسمه به في الشتاء القارس·