دوّن عبد العزيز القصاب مذكراته كشاهد على الأحداث التي عاصرها بدقة وتجرّد نادرين، حيث تنقل في الوظائف الإدارية من قائمقام في سامرّاء والسماوة والجزيرة ( الصويرة) فالسماوة ثانية ثم الهندية وهيث وعانة والزيبار.
أنت هنا
قراءة كتاب مذكرات عبد العزيز القصاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
مذكرات عبد العزيز القصاب
الصفحة رقم: 3
ومرت السنون وإذا بأبي يستدعيني وأنا طالب في كلية الطب، قائلاً إنه سمع بهواية أولاد أخي بجمع الطوابع فما رأيك بإعطاء هذه المجموعة لهم؟· نظرت الى يده الممدودة نحوي ولم أصدق عيني، لقد احتفظ بمجموعة طوابعي وهو في قمة غضبه عليّ ولم يكن قد رماها الى قاع النهر· كان في ذلك لي قمة الحنان الأبوي·
وزاد في عجبي أيضا كيف تمكن أبي بثقافته العثمانية أن يؤمن بسنّة التطور ويجاري مسيرة أولاده في القرن العشرين· وهذه حكاية أخرى مع هوايتي الثانية: حبي للفنون التشكيلية· كان بيتنا بعيدا عن الفن، خاليا من أي ورقة أو علبة ألوان للرسم· وفي يوم من الأيام فتح أبي باب غرفتي بصورة مفاجئة، وكنت أحدق في تمثال صغير (لفينوس ميلو) لأرسمه· وبدت على وجهه علامات قلق وأغلق الباب بسرعة وكأنه قد فقد ابنه الى الأبد لعارية أغريقية·
وراقب والدي تطور هوايتي للفن واجتاز الهوة السحيقة التي كانت تقف بيننا، حتى وافق عام 1950 على طلبي لاستعمالي بيته الجديد على النهر، والذي بناه له، المهندس المعماري جعفرعلاوي، لافتتاح أول معرض لجماعة (الرواد) الذي دام لمدة ثلاثة أيام· معرض أصبح علامةً مهمةً ومنعطفا في تاريخ الفن العراقي الحديث·
وقف والدي بإعجاب بين لوحات فائق حسن وجواد سليم وأصدقائنا الآخرين، وبين المئات من الزائرين· والمعرض يعج برموز كثيرة لشباب أراد أن يغيّر كل شيء: أحذية تسلق جبال، فؤوس، أكواب معدنية موقعة معلقة فوق الموقد، ولوحات فنية تعلن عن ولادة حركة جديدة لرواد الطبيعة العراقية من الشمال الى الجنوب·
وفي هوايتي الأخرى، تذوق الموسيقى الكلاسيكية، وجدت نفسي هاربا منه، سجينا في غرفتي، أتصبب عرقا وأنا أتدرب على الكمان، غير متوقع أن يكتب لي والدي رسالة خاصة وأنا في لندن، كيف أنه اهتم بتنظيم مجموعة أسطواناتي بحنان ورفق·
راقبت أبي وأنا قابع في آخر مجلسه يوم الجمعة، فاغرًا فاهي، مستمعا الى ما يدور فيه من حوار· مجلس تغطيه العمائم الخضراء والبيضاء والسوداء، ورجال سياسة أفندية من مختلف المشارب والاتجاهات، شيوخ الجبال المتمنطقون بأحزمتهم العريضة، ورؤساء عشائر من رجالات ثورة العشرين، تجمعهم صداقات عميقة واحترام متبادل· صورتهم تدل على انعدام التعصب الطائفي والعرقي وتفصح عن التسامح والانفتاح وتقبل الرأي لآخر· كان من جملة الساسة الحاضرين دائما: حكمت سليمان، وعلي جودت الأيوبي، ورشيد عالي الكيلاني· سياسيون لم تجمعهم مع والدي أي وزارة أو حزب سياسي· وفي الأعياد كان المجلس يضم رجال الطوائف الدينية الأخرى، ممثلة بالبطارقة بألوان ألبستهم البراقة وحتى الحاخاميين اليهود·