أنت هنا

قراءة كتاب محمد مهدي الجواهري حياته وشعره

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
محمد مهدي الجواهري حياته وشعره

محمد مهدي الجواهري حياته وشعره

قال الجواهري ذات يوم: «أنا أحب الحياة، وما زلت شاباً في نفسيتي وفي تطلعاتي رغم المائة التي أقرع بابها على قاب قوسين وسنة». أحب الشاعر الحياة، وغنى لها رغم آلامه وأحزانه ورغم غربته وعذاباته.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 9
ألبسه والده العمامة صغيراً، ومارس عليه الضغط لحفظ علوم الدين، وتغليب الروحانية على الابن، وينفذ الولد أوامر والده، لكنه ما أن يختلي بنفسه حتى يعود إلى دواوين الشعر. وتمشياً مع الأصول المرعية في الدراسة بدأ مهدي (بالأجرومية) على يد الشيخ محمد علي المظفر، فدهش من سرعة حفظه، ثم يدرس النحو والبلاغة على الشيخ علي ثامر والشيخ مهدي الظالمي. وكان كلما ازداد وعياً ازداد بُعداً عن رجال الدين لما يحسه فيهم من قساوة وحب للمال، حتى أنه لم يعد في نفسه أي ميل إلى أن يكون فقيهاً أو أصولياً مثلهم، ووجد الشعر يستفزه بشدة، حتى شعر بأنه ليس أهلاً لسواه، ولكنه في نفس الوقت لا يريد أن يعارض والده، وبدأ يحاول النظم حيث يقول: «بدأت محاولاتي لكتابة الشعر، وأنا في الرابعة عشرة لكني لم أستطع أن أبوح بشعري، لأني كنت غير متأكد منه، ففي النجف يتمتع الشعر بحب أبناء المدينة وكلهم يعرفون جيده من رديئه»(8).
 
وراح ينظم البيت والبيتين، حتى اطمئن إلى هاجسه فعرض خطوته الأولى وهي مقطوعة ميمية مضمومة.. يجمجم..، ويستمر في القراءة حتى يقول.. مدمدما. فضحك منه الحاضرون، واستحال الأمر منه إلى عقدة، أحالت دون اطلاع غيره على نظمه، فراح ينظم لنفسه تحدوه الثقة، ولم يكن الجواهري وحيداً في مثل تجربته، فكثير من الشعراء مروا بنفس التجربة، وأصابهم هذا الإحساس، وربما بكى بعضهم أو انقطع بعض آخر من إحساسهم بالسخرية والاستهزاء، أو مما أحيطوا به من حسد وتثبيط عزائم فأحبطوا، ولكن شاعرنا قفز من تحت كل الرماد حتى إذا اطمأن لنفسه، قال شعره أمام من يستضعفهم من أقرانه وأصحابه، وكلما زادت ثقته بنفسه اتسعت دائرته، حتى تجرأ ومدح الشيخ (محمد حسين كاشف الغطاء، فسمح له الشيخ (علي كاشف الغطاء) وكان يدعوه «بخالي» باستعمال مكتبته التي وجد فيها مهدي مرتعاً خصباً، ثم أهداه أبياتاً يترضاه بها، فأعطاه الشيخ فهرست المكتبة ولم يكن يقبل أن يعطيه لأحد. فأخذ يطلع على القديم والجديد ويستعين عليه وعلى ما في الجرائد والمجلات والكتب بأخيه عبدالعزيز وابن عمته الشيخ علي، كما أصبح يشارك في النقاشات التي تدور عن القديم وجموده والجديد وتحرره. وشرع يكثر النظم، لأنه كان يريد أن يكون شاعراً يشار له بالبنان وفي أقصر وقت. لكنه كان يخشى الانتقاد أو أن يقال بأن شعره رديء ثم يزداد شعوره بالاطمئنان فيقول: «في السادسة عشرة طغت الكلمة على قلبي ولساني.. فبدأت أقرأ شعري في أوساط النجف، وبدأ الناس يتعرفون على شعري..» (9).
 
ثم بدأ يطور نفسه إما لحب الظهور أو التنافس مع الآخرين، وطاوعه الشعر، وكان موزوناً ومقفى، ولم ينشره لعدم توفر النشر في العراق آنذاك والصحافة في خارج العراق ليست له بعد، ولذلك ضاعت بداياته الشعرية واختفت.
 
في هذه الأثناء بدأ الإنجليز الزحف على الكوت، وشكل الشباب العراقي قوة لمواجهتهم، وكان من بينهم والد مهدي، وما لبثت الحرب أن انتهت وعاد والد مهدي إلى بيته، وقد أصيب بحمى التيفوئيد لينام طريح الفراش ويحضر الطبيب لمعالجته، ولكن حالته ازدادت سوءاً فراح يردد:
 
الناس يلحون الطبيب وإنما
 
غلط الطبيب أصابه الأقدار
 
ولم يدم الحال طويلاً حتى مات الشيخ والد مهدي عام 1917، وأقيم العزاء وانتهى الأمر، ومرت أيام الحزن، فعاد مهدي إلى دروسه، فأكمل درس البيان على يد شيخه علي ثامر، ودرس المنطق والفلسفة على السيد حسين الحمامي ثم زاد إقبال الشاب «مهدي» على قراءة الجديد من الشعر وغيره سواء كان عربياً أو مترجماً، وفي هذه الفترة تنادى العراقيون للثورة على الإنجليز، وكانت النجف مركز الثورة، فاختار مهدي كتابة الإعلانات ولصقها على أبواب الصحن العلوي ويدعو فيها للثورة.
 
هذه هي بدايات مهدي الشعرية، عندما توفيت جدته «صيتة». حيث أخذه إيقاع الشعر المتين الساحر، وعندما كان أكابر البلد يهتزون على إيقاع الشعر وتشنف آذانهم تراجيع القارئ، خاصة عندما يصل إلى بيت القصيد، كان مهدي يستمع ويرى ما يثيره الشعر وما يفعله بالناس، فتعروه مهابة تتجاوز مرحلة طفولته إلى عوالم رحبة، عرف رهبة الشعر عندما توفي «كاظم الخراساني» ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وعلته الصفرة أكثر من مرة، وأصابته رعشة العشق بحضور «محمد سعيد الحبوبي» وهو الشاعر الذي أحبه مهدي، وكانت كلمة الإلهام أقرب إليه من كلمة الموهبة، ثم كانت مناسبات الشعر عنده حاضرة تجري معه كالطعام والشراب، بدأ في مجالس الشعر طفلاً، ثم تطورت الصورة عنده فكان أترابه يتسلّون باختبار حافظته، فيعيد لهم ما يتلونه عليه متأثراً بالحبوبي والخراساني ومديناً للشيرازي الذي أفتى بثورة العشرين، والإمام أبي الحسن والشيخ الثانئيني.
 
توفي والده فاستعاد مهدي كما يقول ذاته وشخصيته رغم إحساسه الأليم بفقدان والده، فبدأ يخرج من صدره ما استطاع أن يحتفظ به أو يحبسه، ويلتقط من مكتبة أخيه ما لا يجده في مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء إضافة إلى ما كان عنه من كتب ودواوين وما كان يصل إلى يديه من المترجم، وتأثر بكل ما يقع تحت بصره داخل النجف وخارجها.

الصفحات