"الأعمال الشعرية 2/1" للكاتب والشاعر السوري نوري الجراح، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر -بيروت، والتي يقول الشاعر نوري الجراح في مقدمة كتابه:
هل يحقُّ للشاعر أن يتكلم عن شعره؟
أنت هنا
قراءة كتاب الأعمال الشعرية 2/1 - نوري الجراح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الأعمال الشعرية 2/1 - نوري الجراح
III
الشعراءُ الحقيقيّون هم، عندي، أولئك الذين كتبوا شعرَهم وهجستْ أرواحُهم بالموت، وكادت أجسادُهم تميل وتذهبُ بخفةٍ وسعادةٍ، ولم يفصحوا، في أيِّ وقتٍ عن رغبتهم في الانتحار، لكنهم عاشوا صراعَ الفكرةِ، بدمويتها القُصوى، مع كلِّ كلمةٍ كتبوا· هؤلاء المتطرفون هم الشعراء·
مع كلِّ قصيدةٍ، للشاعر هناك تجربةُ انتحار، ومشروعُ خلاصٍ من الموت· فالموت له جاذبيَّةٌ استثنائيةٌ لا سيما عندما يرى فيه الشاعر وجها آخر لحياةٍ تختزلها قصيدة تتوق إلى السيطرة على الزمن وإذابته في سيجها: (ماضياً) كذكرى، (حاضراً) كذكرى، (مقبلاً) كتوقع منذور لأن يتحول إلى (ذكرى)·
هنا، في انشغالِ الشاعرِ بالهارب، ربما، يكمن الكشفُ عما هو عبثيُّ في وجودِ الكائنِ، وما هو خالدٌ في الفن، بينما هو يقف على الزمن كحدوث متصل يرفعه الإنسان إلى مرتبة القدر
IV
في حركة الكلمات يتحوَّلُ الزمنُ بكلِّيته إلى حَجَرٍ·· ليكن ألماساً، لكنه حجرٌ يطوّح به الشاعرُ نحو الأقصى من الوجود، ونلمحُه في الشعر كشهابٍ يندفعُ، ونسمِّيه، من ثم، انخطافَ القصيدةِ نحو جاذبيةٍ طاغيةٍ· لكن الحجرَ ما يني يرتدُّ عائداً إلى المدار كفلك مضيءٍ مُغْرٍ·
هنا مشابهةٌ ليس في أصلها اختلافٌ جذريٌّ مع حالةِ الصخرةِ التي يحملها سيزيف من الهاوية ويرتقي بها الجبلَ إلى القمَّةِ، وما إن يتركها حتى تُفلت وتعود فتستقرّ في القاعِ، ليعاود إلى ما لا نهاية النزولَ إلى الهاويةِ والصعودَ إلى القمة·
طغيانُ الجاذبيَّةِ، وعنادُ الأشياءِ يصنعانِ قَدَرَ الإنسانِ المضادّ لحريته، وانفتاحَ الحريَّةِ على الموت
V
ثمَّةَ بُعْدٌ قصيّ في نفس الشاعرِ· أصوات تهوّم وتناديه، كمثل أصوات حوريات البحر عند هومير اللواتي نادين أوديسيوس في مياه رحلته الإغريقية، ولم يكن في وسعه الفكاك من سحر أصواتهن·
وإن كان أوديسيوس أدرك إمكان المضيِّ في المغامرة مع إمكان السيطرة على نفس ترغب أن تطيعَ إغراءَ الجمالِ وتستجيب لسحره، فطلب من رفاقه شدَّ وثاقه إلى صاري السفينةِ عندما راحوا يقتربون من منطقة تلك الأصواتِ، فإن الشاعر هو ذاك المغامر الذي يبقي جَسَدَهُ حراً طوعَ حواسه، وحواسَه حرَّة لتنجذب نحو تلك الجهةِ الغامضةِ فيه بكلِّ ما يسكنها ويمورُ فيها من أصوات لا تَحَقُّقَ لشعره من دون الوصول إليها، ولا وصول إليها من دون الاستعداد للفناء فيها· بل إن شعر الشاعر نفسه هو ضوء ذلك الانغمار في غموض تلك الأصوات وما تمثله من تعدد في شخصية الشاعر إذ يستجيب لإغرائها، ويقدّ من هذا الإغراء ما يسميه النقاد (سرّ الشعر) وجماله الغريب· هذه استجابة تحمل المتعة مقرونة بالألم، والفرح بغموض الشعور· من على هذا المعبر المفتوح على المفاجآت يندفع الشاعر في مغامرته المتطرفة، وتتجاذبه في تلك الوجهة قوّتا الحياة والموت على نحو ممزِّق·
ولا فرق جوهرياً بين حالتي أوديسيوس والشاعر، لأن أصوات جنِّيَّات الأول هي الأصوات التي سمعها هومير في ذروة تحققه في بطل ملحمته·
فهل يكون، إذن، في مشابهةٍ أخرى، مَثَلُ الشاعر في علاقته بنفسه كمثل الشخص المُنْتَظَر في الحكاية العجيبة، المنذور لفتح غرفةٍ ظلَّتْ مغلقةً لأزمانٍ، فما تنكشف أسرارها إلا مع وصول ذلك الشخص استثنائي القُدْرَةِ والقّدَر؟
وكما إن في بعض الحالات التي تصوغها الحكايات العجيبة مثال من يدخل غرفةً فلا يخرج منها أبداً، كذلك في حالة الشاعر وكينونته هنالك ذاك التوقع المخيف من أن يحمل العبور بعيداً وعميقاً في أنوار النفس وظلماتها مصيراً مأسوياً·
***
إن مغامرة الاكتشاف عبر النفس قد تقود عالِماً في الفيزياء إلى السيطرة على الذات ومحيطها معاً، لكنها بالنسبة إلى الشاعر تحمل مخاطر الوقوف على نهاية العالم· مخاطر الهلاك·
إن الشعر للشاعر تجربة قاتلة لمجرد كونه انفتاحاً هائلاً على العالم، واستعداداً للفناء فيه، على اعتبار أن ما من تجربةٍ ذاتِ لهبٍ قدسيٍّ ما لم يكن خوضُها حدثاً غير مسبوقٍ، بكلِّ ما يعنيه ذلك من صداماتٍ وارتطاماتٍ للشعور وهو يرهفُ ويشفّ حتى ليكادُ يذيبُ صاحبَه ويسكبه في كلِّ مرئيَّةٍ من مرئيّاتِ الوجود، فلا تعود تستحقُّ التجربةُ اسم المغامرة لو ظلَّ شاعرَها دون هذه الحالة· وذا ضربٌ ساطعٌ من ضروبِ التطرف·