أنت هنا

قراءة كتاب الأعمال الشعرية 2/1 - نوري الجراح

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأعمال الشعرية 2/1 - نوري الجراح

الأعمال الشعرية 2/1 - نوري الجراح

"الأعمال الشعرية 2/1" للكاتب والشاعر السوري نوري الجراح، الصادرة عام 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر -بيروت، والتي يقول الشاعر نوري الجراح في مقدمة كتابه:
هل يحقُّ للشاعر أن يتكلم عن شعره؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

II

يولد الشاعر انتحارياً، ويولد منتحراً· إنه كشاف غوامض، وغوّاص في وجودٍ يظلُّ مجهولاً وعصيِّاً على الكشف· وهو في غوصه يندفع في مغامرة تأخذ شطرَ الخطر، وتهدِّد باللاعودة· ولا يتحقق الشاعرُ إلا في تلك الاندفاعات الشعورية المتطرفة المعبرة عن نفسها في حالات متبدّلة ومتغيِّرة، سرعان ما تترجمها إلى شعرٍ، مخيلةٌ رهيفةٌ وعلاقة مع الكلمات لا تقرّ على نظامٍ ولا تأمنُ نظاماً·
لذلك يبدو لي، باستمرار، وبشيء من الإدراك الحسي أن الشاعر إرهابي، لما في علاقته باللغة والأشياء من تطرف وتمرد، على رغم ما في مسلكه من علامات لطف، وعلى رغم ما يسبغه حضوره في العالم وعلى الأشياء، من لطائفَ ونباهات-·
إرهابي، بمعنى أن كلماته، صياغاتها، صور مخيلته، دلالاتها، إيقاعاته، عنف الطاقة التي فيها، عناصر الإدهاش، مصادرها في اللغة، منطقه، سمات التوتر الشعوري الكامنة في الكلمات، حركة الجمال في ظلال لغته، اللحظات المجسّدة كأسرار، كل هذا، وغيره أيضاً، في أوقات وحالات من حياة الشعر وحياة الشعور، يملك أن يُرهبَ·
كم مرة قيل لشاعر كلماتك ترهبني؟
***
يولدُ الشاعرُ مراراً· في كلِّ قصيدةٍ له مولدٌ· وفي كلِّ مولدٍ له روحٌ جديدٌ يهدِّدُهُ الموتُ· والقصيدةُ التي لا تختلف عن غيرها من قصائد الشاعر تنذرُ بموت روحٍ من أرواحه· في دورته الشعورية (نظير دورة الدم) وفي الجينات التي تولّد صفاته المائزة يسري طابعه الخاص· لذلك لا تعني الكتابةُ شيئاً مهماً لشاعر، ما لم تصدر بقوة وطغيان حقيقيين عن تلك المنطقة الأعمق فيه، حيث يسكن كائنه الأحبُّ، شخصُه الأول: الطفلُ النائمُ، المستيقظُ، اللاعبُ، الدهشُ، الغاضبُ، المتفرِّجُ، الساهي، المتردِّدُ، الخائفُ، النافرُ، المستعدُّ، الفوضويُّ، الأنيقُ، المشاكسُ··· ولكن، دائماً، العاشقُ النزقُ المتطرِّفُ·
لا تتحقَّقُ الكتابةُ في أبهى حالاتها قبل الوصول إلى هذا الطفل المتواري فينا· وما يتمُّ هذا لكائناتٍ يَعْوَزُها نزوعٌ جامحٌ علامتُه انحيازٌ مطلقٌ ونهائيٌّ نحو الحبِّ، واستلهامٌللجمال هو في حقيقته شوقٌ إلى الحرِّيَّة· عند هذه التخوم يولدُ الخَطَرُ، ومن صدمةِ المعاكِس والمخالِف يتخلّقُ المفارقُ والمأسويُّ
***
يولدُ الشاعرُ وفي روحه تسري محبتان: محبَّةُ الحبِّ كجوهرٍ لا يموتُ، ومحبَّةُ المحبوبِ كشخصٍ ميت· من ألم الإدراك يتخلَّقُ الشِّعْرُ، ومن علاقات الفاني بالخالدِ تنسجُ الموهبةُ فلَكَها في شاعر·
من فداحةٍ وإشراق، ومن يأسٍ هو كلُّ ما يملكه مؤمنٌ شكّاكٌ، يتخلَّقُ الشعر· وما الجمالُ في شعر شاعرٍ إلا لبوساً، أو نظيراً لتطرُّف الحركةِ في الشعور، وعلامتُه ما يهز ويخضُّ ويسحرُ· هنا، أيضاً، على هذا الصراط، يلتقي الخصمان الكبيران: الحياةُ والموتُ· من هذا العلو تهب روح الشاعر، وتتنزّل كلماته·
ولا يتناقضُ هذا، بالمعنى الجوهري والعميق للكلمةِ، مع صورة الشاعر شخصاً مقيماً أو مسافراً في العام 1999، وفي سنة 2007، رهينة نظم ودول وقوانين وأعراف تصوغ وترسّخ أوضاعاً ومجريات مجتمعية وإنسانية معاصرة، فكلامنا ليس تصويراً لكائنٍ نبويٍّ، بل تصويرٌ للشاعر رائياً ومقتحمَ وجودات وراء وجودٍ مظهريٍّ تتكرَّرُ ملامحُه، فهو - الشاعر - بداهةً، كاسرُ قشرةٍ ومخترقُ ألبابٍ، شخصٌ حيٌّ، يسلكُ كغيره في الشَّبكةِ المرئيَّة، لكنه يتصلُ بحركةِ الأعمقِ والأكثرِ جوهرية في الكينونةِ، حيث يكون في وسعه الانصات إلى الأشياءِ الهاربةِ، بدءاً منها في تجلياتها البسيطة ووقائعياتها الملحوظة (في اليومي وظلاله) وصولاً إلى ما تتيحه اختراقاتُ الحواسِ من وصولٍ إلى مصادر النِّعمة، حيث يُدْرَكُ المُدْرَكُ من المعرفةِ بالحسِّ، وتنكشَّفُ الحياةُ السريَّةُ للأشياءِ· حيث النورُ لا يزال بصيصاً في كنف ظلمةِ الوجود، وحيث يخفقُ الماءُ الأول للمخيلة·
هل يبدو هذا التصور رومانطيقياً؟
ربما، إنما في مثل هذا الميل يتبدَّى اللاذعُ مما لا طعمَ له، والفاترُ مما يتوهج· وهل إنَّ برقَ اللغةِ غير دليل إلى نفس تبرقُ، وفتورُها علامةُ نفسٍ رخوةٍ خامدةٍ؟ ومن ثم ألا يمكننا في ضوءٍ كهذا أن نتبيَّنَ الشاعرَ من لصِّ الكلمات؟

الصفحات