أنت هنا

قراءة كتاب يا أيها الإنسان - قراءة تأملية في عالمية الخطاب القرآني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يا أيها الإنسان - قراءة تأملية في عالمية الخطاب القرآني

يا أيها الإنسان - قراءة تأملية في عالمية الخطاب القرآني

أحمدُ الله الَّذي خلقَ الإنسان، علَّمَهُ البيان، والّذي رفعَ السَّماء، ووضعَ الميزان، وأصلِّي وأسلِّمُ على رسولِ الله حاملِ الوَحْي، وقائدِ الخَلْق إلى الحقّ، والمثلِ الأعلى للخليقة الَّذي اجتمعَتْ فيه كَمالات النَّفس والخلُق، وعلى آلهِ الأطهار، وأصحابِه ال

تقييمك:
4.66665
Average: 4.7 (3 votes)
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 3

(2) يومَ كُنْتَ صِفْراً

لم تكنْ أنتَ شيئاً، ولم أكنْ أنا حينَ كان الكونُ رَتْقاً فَفُتِق، فإذا هو بُنيانٌ ضخمٌ هائلٌ، وملكوتٌ مُهَنْدَسٌ مَوْزون لا ترى فيه من تفاوتٍ أو فُطُور، وإذا هو أرضٌ وسماء، وأثيرٌ وفضاء، ونجومٌ وأجرام، وجبالٌ وبحار، ومِهادٌ ووِهاد.
لم تكنْ شيئاً مذكوراً في أروقة الكون؛ إذ تطلعُ شمسُه، ويُطِلُّ قمرُه، ويتنفّسُ صبحُه، ويَسْجُو ليلُه، ولم تكنْ هَباءً منثوراً، ولم تكنْ نوراً منشوراً، بل كنتَ عَدَماً.
وكانَ الوجود، وأنتَ غيرُ موجود، وكان الشُّهود، وأنتَ مفقود، وكان الكونُ أرقاماً كبيرةً كثيرة، وكنتَ صِفْراً لا تعلمُ شيئاً:
(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) الإنسان، آية1
ثمَّ شاء ربُّك ( لحكمةٍ بالغة أنْ يخلقَك من نطفةٍ أمشاج، ويجعلَك سمعياً بصيراً؛ ويهديَك السَّبيل؛ ليبتليَك فيما آتاك، أتشكرُ أم تكفر.
( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان، الآيتان 2، 3
ثمَّ لمّا صرتَ بشراً سَويّاً تَعي وتَعْقل، وترى وتسمع، وعافَسْت الحياة، وأبحرتَ في نعمِ الله، ها أنت ترى من بني جِنْسِك مَنْ يُنكرُ المآلَ والمصير، ويزعمُ أنَّه لنْ يُبعثَ بعدَ الممات:(وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) مريم، الآيتان 66-67
ثمَّ بعدَ أنْ لم تكنْ شيئاً مذكوراً جعلَك الله ( شيئاً، بل جعلَك خليفةً له في الأرض، وكلمةُ الخلافةِ كلمةٌ ضخمةٌ ذات إيحاءات، ومن إيحاءاتها أنَّك كائن عظيم القَدْر ذو أهمية بارزة في الحياة، وأنّك خليفةُ الخالق المبدع المسيطر على كلّ قُوى الكون، فأنتَ المخلوقُ الذي احتفلتْ به السَّموات والأرض، وتولَّى الله ( بنفسِه إعلانَ مَقْدمك على الملأ الأعلى، والملائكةُ يفزعون للنبأ ويهتزّون.
وأنتَ مخلوقٌ مُتفرِّد، وخطير الشَّأن في دورة الحياة، ومُزوَّدٌ بطاقات هائلة، ومُشتملٌ على نقطة ضَعْف هي حُبّ الشهوات، ونسيان العَهْد، ومخلوقٌ ذو طبيعة مزدوجة فيه القدرةُ على الارتفاع إلى أقصى مدى، والقدرةُ على الهبوط إلى الحضيض.
وأهلُ العلم يقدّرون أنَّ جدّك الإنسان الأول يرجعُ ظهورُه إلى نحو مليون سنة، وأنّه استأثرَ بالعقل وحْدَهُ دون سواه حتى إنَّ أيّ حيوان لم يُسَجِّلْ لنفسه قدرةً على تربيع حَجَر، أو العَدّ لغاية عشرة، أو فهم معنى عشرة، وأنّ العلمَ يعترفُ باشتياق الإنسان إلى أشياء أسمى منه، والذي يراه العلم ويقدّره المفكّرون جميعُهم هو أنّ الاعتقادَ بوجود الله له قيمة لا تُقدّر.
وترى نظرية أخرى أنَّ وجود جدّك الإنسان الأوّل يعودُ إلى نحو مليوني سنة، وليس سهلاً على الخيال أن يدركَ المدى الزَّمنيّ البعيد الهائل الذي يغطيه ارتقاءُ الحياة على هذا الكوكب.
وأنتَ شيء مختلف عن الحيوان، فالحيوان بأعضائه وجوارحه مُكيَّفٌ بصورة دائمة على أسلوب معيّن من الحياة والبيئة لا يستطيع تجاوزه، أمّا أنتَ فلك سلسلةٌ غير محدودة من الأعضاء، وتستطيع أنْ تُكيّفَ نفسَك مع كلّ ظرف وكلّ مُناخ، وأنت في كلّ مكان تحلّ فيه تنوّعُ آلاتِك ونشاطَك وطعامَك وملابسَك وأسلوبَ حياتك.
وهذه الأرضُ التي تعيشُ عليها والتي قدَّرَ أهلُ العلم عمرها بنحو ثلاثة ملايين سنة، أثبتَ العلماء المسلمون من قبلُ أنّها كُروية، وقاسوا حجمَها ومحيطَها وقُطْرَها، وعرفوا أنّها أصغرُ من الشمس حجماً، ودرسوا القُبَّة السَّماوية، وبنَوا المراصد لذلك، وحرّورا علمَ الفلك من الخرافة، واخترعوا عشراتِ الآلات الملاحية.
وقد استمدّ العلماءُ المسلمون معرفتهم عن الأرض من القرآن الكريم كلامِ الله الذي أبدعَ ما في الكون بعلمِه وحكمتِه وقدرتِه، فكلُّ كلمة في القرآن وكلّ حرفٍ حقٌّ مطلق، وثمّة إشارات كثيرة، وآيات كريمة تتعرّض للأرض في نحو 461) آية، منها 110) آيات تشير إلى القواعدالأساسية لعلوم الأرض.
والحياةُ التي أودعَها الله ( فيك سرُّها الرُّوح، والرُّوح من أمر الله، والحياةُ تُعرف من آثارها فهي التي تسبّبُ الخِصْب والتوالد، وهي التي تلوّنُ كلَّ زهرة، وتخطّط كلَّ ورقة، وكلَّ جناح فراشة، وهي التي تجعلُ العقل يفكّر، واليدَ تتحرك، والعيَن تُبصر، والأذنَ تسمع، واللسانَ ينطق، والجلدَ يحسّ ويتألّم، وهي التي تجعلُ على خديّ الطفل حُمْرة، وعلى شفتيه بسمة، وفي عينيه بريقاً، وهي التي تراها نبتةً تفلقُ الصَّخر، وترفعُ أطنان الماء إلى الأوراق كلَّ يوم.
فلا تعجبْ بصورتِك بعد هذا الفيض الإلهيّ، ولا تختلْ بمشيتك، ولا تنسَ مبدأ أمرك، فما أنت إلا لقمة ضُمَّتْ إليها جرعة ماء، وقطعة من لحم، ومَذْقة من لبن، فطبختها الكبدُ، فأخرجتْ منها قطراتِ مَنيّ، فاستقرَّ في أبويك فحركتهما الشَّهوة، فصُبّت في الرَّحم مدّةً حتى تكاملت، فخرجتَ طفلاً تتقلّبُ في خِرَق البول، ثمّ بعد موتك يُلقى بك في التراب، ويأكلُك الدُّود، وتصيرُ رُفاتاً تسفيه السَّوافي.
أمّا ما عليه العملُ فالرُّوح، فإن تجوهرَتْ بالأدب، وتقوّمَتْ بالعلم، وعرفَت الصَّانع، وقامتْ بحقّه، فما يضرّها نقصُ المركب، وإن هي بقيتْ على جهالتها شابهت الطين، بل صارتْ إلى أخسّ حالة منه.
وأنت كائن مُكلّف قد ميَّزَك ربُّك ( بخاصة التكليف، وأعدَّك لخطاب العقل، وبيّنات الإقناع، ووَضَعك في أشرف مَنْزلة في ميزان الفكر، وانتشلَك من قاع الصُّور الفلسفيّة التي حاولتْ تصويرَك بغير صورتك، ووضْعَك في غير مكانك، فأنت كائن مكلّف تَشْرُف في التقدير من قول القائلين إنك "الكائن الناطق "، أو "المَلَك الهابط"، أو "الحيوان الصَّاعد"، ولستَ بشيء إنْ لم تكن أهلاً لأمانة التكليف.
ومَنْ أنت إذا لم تجدْ ذاتك، وتستقرّ نفسُك على الاختيار الصَّحيح، وتخلد إليه وتستريح، لقد أعطاك الله ( مساحةً كبيرةً هائلة من المنازل والمراتب، تختارُ منها عُلوّاً وسُفْلاً ما تشاء، أعطاك مِعْراجاً عجيباً تتحركُ فيه روحُك حتى ترقَّ وتَلْطُف، وأعطاك منازلَ للجسد إذا لم تحسن استعمالَهُ شابهتَ الحيوان في غرائزِه وشهواتِه، وشابهت الشَّيطانَ في ظلمتِه وانحطاطِه.
فهل تطوي صفحاتِك المليئة بالأدران والأوزار، المثقلة بالغفلة والإعراض، وتفتح صفحةً جديدةً بيضاء من غير سوء، وتعرف حقَّ ربّك ( الذي أوجدك من العَدَم، ولم تكن شيئاً مذكوراً، والذي ربّاك بالنعم، وأنتَ في بطن أمّك في ظلماتٍ ثلاث، لا يستطيعُ أحدٌ من المخلوقين أنْ يوصلَ إليك غذاءك، ثمّ لما ولدتَ أدرّ لك ثديين باردين في الصيف، دافئين في الشتاء، ولو حجبَ عنك فضلَهُ طَرْفةَ عينٍ لهلكتَ، ولو منعك رحمتَهُ لحظةً لما عشتَ، وربّك غنيّ عنك لا يريدُ منك إلا أنْ تكونَ عبداً له خاضعاً طائعاً.
ولو كان لأحد من الناس عليك فَضْلٌ لاستحييتَ أنْ تبارزَهُ بالمعصية، وتجاهرَهُ بالمخالفة، فكيف بربّك الذي كُلُّ فضلٍ عليك هو فضلُهُ، وكُلُّ ما يندفعُ عنك من سُوء هو من رحمتِه.

الصفحات