أنت هنا

قراءة كتاب يا أيها الإنسان - قراءة تأملية في عالمية الخطاب القرآني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يا أيها الإنسان - قراءة تأملية في عالمية الخطاب القرآني

يا أيها الإنسان - قراءة تأملية في عالمية الخطاب القرآني

أحمدُ الله الَّذي خلقَ الإنسان، علَّمَهُ البيان، والّذي رفعَ السَّماء، ووضعَ الميزان، وأصلِّي وأسلِّمُ على رسولِ الله حاملِ الوَحْي، وقائدِ الخَلْق إلى الحقّ، والمثلِ الأعلى للخليقة الَّذي اجتمعَتْ فيه كَمالات النَّفس والخلُق، وعلى آلهِ الأطهار، وأصحابِه ال

تقييمك:
4.66665
Average: 4.7 (3 votes)
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 4

(3) أنتَ أجملُ الكائنات!

أنبأك ربُّك الخالقُ تباركَ وتعالى بأنّه قد جعلَك شيئاً عظيماً، وأوجدَك على مَسْرح الحياة، وسلّطَ عليك الأضواء، بعد أنْ لم تكنْ شيئاً مذكوراً، فأنباك عن أَصْل أبيك آدم، وأنّه خُلِقَ من طينٍ يابسٍ يُسْمَعُ له صَلْصَلة إذا نُقِر، حتى صار في غاية الصَّلابة كالفَخَّار:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) الحِجر:26
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) الرحمن:14
فأصلُ خَلْقِ أبيك من خُلاصة اُستُلَّتْ من طين، ثمَّ صارتْ ذُرّيتُهُ تتناسل من خلاصةٍ من ماء ضعيف حقير هو النُّطْفة:
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) النحل:4
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)} السجدة:7-8
ولم يَقُلْ سبحانه من نُطَف، بل من نُطْفة واحدة من المَني، فملايين النُّطَف التي تسبحُ باتجاه البويضة الموجودة في الرَّحم تعودُ كلّها خائبة خاسرة، ولا يصلُ منها إلى البويضة إلا حيوان منوي واحد يقوم بتلقيحها، ويشكّل معها سَدّاً منيعاً لا يخترقه شيءٌ بعد تشكّله، ومن هذه النُّطْفة الدَّافقة من الرَّجل يتكّونُ جنسُ المولود، وهذه الحقيقة القرآنيّة هي حقيقـةٌ علميّة طبيّة.
وقد تحوَّلَ هذا الماءُ إلى دم جامد يشبه العَلَق يتعلّقُ بالرَّحم، والعَلَقة دودة صغيرة، وقد أثبتَ الطبّ الحديث أنَّ المنيّ يحتوي على ديدان صغيرة لا تُرى إلا بالِمْجهر الدقيق، وأنّ لها رأساً وذنباً.
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق:2
وانتقلت النُّطْفة من صُلْب الرَّجل، واستقرَّتْ في مكان متمكّن من الأنثى هو الرَّحم، ثم صار الماءُ الدَّافق دَماً جامداً يشبهُ العَلَقة، وصار الدَّمُ الجامد قطعةَ لحم لا شكلَ لها ولا تخطيط، وصارتْ قطعةُ اللحم عظاماً صُلْبة؛ لتكونَ عموداً للبدن، وسُتِرت العظامُ باللحم، فكانت كالكسوة لها، ثمّ بعد تلك الأطوار نفخَ الله تبارك وتعالى فيه الرُّوح، وجعله خَلْقاً آخر في أحسن تقويم، فتعالى الله وتبارك، فهو أحسن الصَّانعين صُنْعاً:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)) المؤمنون: 12-14
وبهذا وصفَ القرآنُ الكريم أطوارَ الجنين وصفاً دقيقاً من خلال إطلاق مسمّى على كلّ طور له بداية ونهاية محدّدة، حيث وصفَ المظهرَ الخارجيّ للجنين، وعكسَ عملياتِ التخلّق الداخلية له في فترات زمنية متعاقبة.
والتقسيم القرآنيّ لمراحل نُموّ الجنين أدقّ من وصف علم الأجنّة، فبعضُ علماء الأجنّة لا يركّزون على مرحلة العَلَقة كما يركّز عليها القرآن، وكذلك مرحلة التَّصوير والتَّسوية والتَّعديل؛ إذ إنَّ ما يحدثُ في الجنين يشبهُ ما يحدث عند بناء عمارة ما، فهناك السِّقالات والأعمدة التي تُقام، ثمّ تُهدم وتُزال، وهناك مرحلة بناء الأساس أولاً، ثمّ مرحلة الأعمدة والجدران، ثمّ مرحلة الأبواب والنوافذ، ثمّ مرحلة التبليط والتحسين المسماة "الدِّيكور".
ثمّ بعد هذه الأطوار كلِّها أخرجَك ربّك البارئ المصوِّر في أحسن صورة، وأبدع خَلْق، مُنتصبَ القامة، مُتناسبَ الأعضاء، حُلْوَ القَوام، مُشرقَ المحيّا، وضّاءَ الوجه، مُزيّناً بالعلم والفهم، مُميّزاً بالعقل والوعي، مُجمّلاً بالنُّطْق والأدب:
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين:4
وها قد استويتَ خَلْقاً رائعاً حتى صرتَ أجملَ الكائنات، وأحلى المخلوقات، فإنْ حفظتَ الله تبارك وتعالى في نفسِك وأهلِك وعبادتِك حفظَك من الارتداد إلى أسفل أسفلين، ورعاك وأنت في أرذل العُمر، وضَعْف الشَّيخوخة، ووقاك من دَرَكات النار، وبيّضَ وجهَك، وسلَّمَك من قُبْح الصُّورة وبشاعتِها يومَ تبيَّضُ وجوه، وتسْوَدُّ وجوه:
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) التين:5
ومن أروعِ صُور الجمال التي فيك أنَّ الله تبارك تعالى قد جعلَ لك شخصيةً مستقلة، واتجاهاً محدّداً، وأسلوباً مميّزاً، ووجهةً خاصّةً بك، وشاكلةً تعملُ عليها، فأنت مميّز ببصمة الإصبع، ومميّز ببصمة العين، ومميّز ببصمة رائحة الجسم.
وأنت وَحْدَة مستقلة في ذاتها وصفاتها، فلا تماثلَ بينك وبينَ غيرِك؛ إذْ لَكَ وجهك الخاصّ الذي تتميّز به عن الناس جميعاً، ولك لونك الخاصّ، وصوتك الخاصّ، وبصمتك الجلدية الخاصّة، وتفكيرك الخاصّ، وحواسك الخاصّة، ولك موجة ذاتية تنبعثُ كهربائيتُها وإشعاعاتُها من جسمك، وهذه الإشعاعات أشبه ما تكون بأمطار غير مرئية تنهالُ دائماً فوق الأرض، وتُطْلَق من النجوم والكواكب نتيجة للتفاعل النوويّ الرهيب في أجوافها.
وقد أثبتَت الأجهزة الحديثة الدقيقة أنّ لكل جسم هالةً خاصّة من الأضواء المشعة تتشكّل على شكل بيضة ناعمة أعرض عند الرأس منها عند القدمين، وتتكّونُ من طبقة خارجية باهتة وطبقة داخلية لامعة برَّاقة، ويخرجُ من هذه الهالة أحياناً شعاعٌ أكثر بريقاً يمتدُّ عِدَّةَ أقدام من الجسم قبلَ أن يتبدّد.
والعجب أنَّ هذه الجماليّة الباهرة، والجاذبية السَّاحرة الكامنة في شخصيتك تنطفئ إذا تقمّصتَ شخصيةَ غيرك، وصرتَ تقلِّدُهُ في الكلمات والأصوات، والحركات والإشارات، وهجرتَ صوتَك لصوتِه، وتركتَ مِشْيتَك لمشيته، وذُبْتَ فيه، فإذا هو أنت، وإذا أنت هو!
والحقّ أنّك نسيجُ وَحْدِك، وشيءٌ فريد في هذا العالم، وأنت مخلوقٌ بدقة تثيرُ الرّهبة، وتستدعي الإعجاب، ولو أنَّ لك 300) ألف بليون أخ وأخت لكانوا جميعاً مختلفين عنك مُناقضين لك، فاغبِطْ نفسَك على هذا التفرّد، واعملْ على الاستزادة مما رُكِّبَ فيك من مواهب وصفات،ولماذا لا تنمو أنت وينمو غيرُك كما تنمو أنواعُ الفاكهة، ولماذا تقلّدُ غيرَك، وقد علمتَ قصّةَ الغراب الذي قلّدَ الحمامة، وراقَهُ المشي على الأرض، فلا هو استطاعَ أن يخطوَ كما يبغي، ولا هو استطاعَ الطيرانَ كما خُلِقَ.
ولقد خلقَك الله البديعُ الذي يحبُّ الجمال خلَقَك جميلاً في كونٍ جميل يموج بالضياء والألوان والظِّلال في الجبال والوديان، والمحيطات والبحار، والجداول والأنهار، والسُّحب والأمطار، والنبات والطير والحيوان، وفي كلّ ما أبدعَ وخلَق؛ من أجل أنْ تتجاوبَ بموهبتك الفذّة مع روح الكون العميقة تجاوباً مباشراً، فإذا الجمالُ مُنطبعٌ في حسِّك، وإذا نفسُك تتحرّكُ لاستقباله في فرح وسرور، وكأنّ روحَك وروحَ الكون شقيقان متعارفان حيثما تلاقيا هَشَّ كلٌّ منهما لصاحبِه، والتقيا في عِناق طويل.
والإحساس بالجمال من أعجب الأعاجيب في كيانِك، وقد عجزَ العلمُ عن تفسير ماهية هذا الإحساس، فلا يَعرفُ كيف يحدث، ولكنّه يكتفي بتسجيلِه وتتبّع مظاهره المختلفة، فأنت تحسّ بالجمال الحسّي في المنظر الجميل، والوجه الحسن، واللون الصافي، والصوت الرَّخيم، وأنت تحسّ بالجمال المعنوي في الفكرة الجميلة، والسُّلوك المهذّب، والذَّوق الرَّفيع، والكلمة الموحية.
وربّك ذو الجلال والإكرام يحبّ الجمالَ في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، ويُبغض القبيح من الأقوال والأفعال واللباس والهيئة، يحبُّ الجمال وأهله، ويبغض القبيح وأهله، ومن الجمال الذي يحبّه أنْ يَرى أثر نعمته عليك، وهو جمال الظاهر، أمَّا جمال الباطن فهو أنْ تشكرَهُ عليها.
لقد حباك الإسلام جمالاً على جمال؛ إذ أعلى شأنَك، ورفعَ قَدْرَك، وأعلنَ في العالمين أنَّك كريمٌ على الله، وأنَّ كرامتَك ذاتيّة أصيلة مستمدة من إنسانيتِك، لا تتبعُ جِنْساً، ولا لوناً، ولا بلداً، ولا قوماً، ولا عرَضاً من الأعراض الزائلة.
وكان إعلانُ الإسلام عن كرامتِك ميلاداً جديداً لك أعظمَ من الميلاد الحِسّي، فما أنت بإنسان إذا لم تكنْ لك حقوق وكرامة، وإذا لم تكنْ تلك الحقوق متعَلّقة بوجود ذاتك، وبحقيقتك الماثلة على الأرض.
حقّاً، أنت أجمل ما في الكون، أجمل من السُّحب البيضاء السّابحة في الفضاء، وأجمل من الأمواج السَّاجية على صفحة الماء، وأجمل من الأطيار الملوّنة بتغريدها المطرب، وأجمل من الأزهار المخضلّة بألوانها الزّاهية، وأجمل من كلّ لوحة فاتنة!
وإنْ شئتَ فاقرأ هذه القصة واستمتع بها:
يروى أنَّ "عيسى الهاشميّ" كان يحبُّ زوجتَهُ حبّاً شديداً، فقال لها يوماً: أنتِ طالق ثلاثاً إنْ لم تكوني أحسنَ من القمر! فاحتجبَتْ عنه، وقالت: طلَّقني، فلا شيءَ أحسن من القمر.
أمّا هو فحزنَ حزناً شديداً، وذهبَ إلى الخليفة "المنصور"، وأخبره الخبر، فاستحضرَ الفقهاءَ واستفتاهم، فقال جميعُ مَنْ حضر: قد طَلُقَتْ، إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة، فقد بقيَ ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلّم؟ فقال الرَّجل: يا أميرَ المؤمنين، يقولُ الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)التين:4
فليس شيء أحسن من الإنسان. فقال المنصور: صدقتَ، وردَّها إلى زوجِها!

الصفحات