أنت هنا
قراءة كتاب البدو في فلسطين في الحقبة العثمانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البدو في فلسطين في الحقبة العثمانية
إن ظاهرة البداوة هي إحدى أنماط الحياة التي عرفتها وتعرفها المجتمعات البشرية؛ مثلها مثل ظاهرتي: التريّف والتّحضّر. وإن البيئة تمارس نفوذا لا حد له على المجتمعات البدوية، فهي التي تحدد للبدوي نوع الطعام وكيفية الحصول عليه، وكذلك الملبس والمشرب والمسكن، كما أنها تحدد أيضا حيواناته كمًا ونوعًا، كما أن البيئة تحدد مبدأ تواجد الإنسان في بقعة ما؛ من عدمه، كما تحدد مزاجه النفسي والاجتماعي أيضا.
إن المجتمع البدوي يتكون من قبائل وعشائر؛ والعشيرة كما عرفها صلاح مصطفى الفوال (5): تتكون من اتحاد عدد من الأسر، والتي تشترك جميعها في نسب أو عصابة واحدة، وبدرجة تمكنهم من أن يرجعوا بأصولهم إلى جد واحد مشترك، وكما توجد بينهم مجموعة من الحقوق والواجبات؛ فضلا عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية التي توحد بينهم وتجعلهم يسكنون متجاورين؛ حتى تسهل عليهم من جهة: أمور المدافعة ضد أي عدوان خارجي، ومن جهة أخرى: تنظيم مختلف نشاطاتهم الاقتصادية والاجتماعية وفق تقاليد وأعراف، ومن خلال رئاسة أبوية وراثية في معظم الأحوال. إن العشيرة من حيث الحجم قد تكون صغيرة لا تضم عددا كبيرا من الأسر، وقد تكون كبيرة بحيث تتسع لتضم مختلف الأسر التي تقيم في مجتمع محلي بدوي ما، وفي هذه الحالة؛ تكون العشيرة أقرب إلى القبيلة؛ حيث تعتبر وحدة سياسية تكاد تكون مستقلة تماما عن القبيلة. لكل عشيرة رئيس هو شيخ العشيرة، وغالبا ما تكون رئاسته وراثية. أما القبيلة فهي تتكون من عدة عشائر، ولا يشترط في هذه العشائر أن تكون ذات علاقة نسب واحدة، وقد يحدث أن تندمج عائلة أو عشيرة في قبيلة من القبائل، أو تخرج منها لتندمج في قبيلة أخرى؛ تبعاً لظروف محلية مختلفة، منها أن تحل بها هزيمة على يد قبيلة أخرى أقوى منها، فتتعرض للسبي وينفرط عقدها، ومنها من تفتقر إلى وسائل القوة المادية مما لا يسمح لها بالاستقلال القبلي، كأن تجدب مراعيها، وتتناقص أنعامها، فتتشتت عشائرها وتنضوي تحت ولاية قبائل أخرى تمتاز بالقوة والغنى، وتدفع لها الخاوة نظير حمايتها.
تضم القبيلة عدة تنظيمات شكلية تعمل على تأكيد وحدتها وتماسكها الاجتماعي وبالتالي تحافظ على كيانها واستمرار وجودها. وأهم تلك التنظيمات: التنظيم السياسي، حيث يمثل القبيلة رئيس يحظى باحترام الجميع؛ وان كان يشاركه مجلس يسمى "مجلس القبيلة" ويتكون في الغالب من رؤساء العشائر.
إن القبيلة تؤلف وحدة اجتماعية وسياسية واقتصادية متكاملة بالنسبة لزعامة القبيلة وشيخ العشيرة؛ فإن لهما المقام الرفيع بين البدو، فالأمر والنهي بيديهما. إن زعماء القبائل وشيوخ العشائر تمردوا على الدولة العثمانية، ولم تستطع الدولة السيطرة عليهم في كثير من الأحيان، الأمر الذي جعل الدولة العثمانية تشد رجلهم بالحسنى كما سنرى في الفصول القادمة. يمكن القول بأن البداوة هو نمط حياة قائم على التنقل البدوي في طلب الرزق، ويتوقف مدى الاستقرار في منطقة ما على كمية الموارد المعيشية المتاحة فيها من جهة؛ ومدى الأمن الذي يمكن أن يتوفر من جهة أخرى.
البداوة حياة سعي وراء مصادر العيش داخل البيئات البدائية، فلذلك؛ كان في السابق بداوة جمع الثمار، بداوة الصيد، وبداوة الرعي.. وإن معنى ذلك؛ أن البداوة ليست وقفا على الصحراء. وإن كانت الصحراء بظروفها الطبيعية تحتم على ساكنيها البداوة(6).
إن بداوة الرعي هي الصورة التقليدية للبداوة في فلسطين، لقد كانت فلسطين بسبب موقعها الجغرافي مسرح تلاقي مؤثرات الحضارتين: البدوية والزراعية. ولم يخل تاريخ البلاد من فترات التعايش السلمي بين البداوة والاستقرار، وهي الفترات التي كانت فيها حكومات قوية تنشر الأمن في البلاد. فعندما تكون السلطة الحاكمة قوية فإنها تحد من غزوات البدو على المناطق الريفية من جهة، وتساهم بما تنشره من أمن في تشجيع الاستيطان البدوي والاستقرار من جهة أخرى(7).
ولكن في حالات الضعف؛ كما حدث في فترة الدولة العثمانية منذ نهاية القرن السادس عشر، ظهرت الزعامات المحلية الطموحة للانفصال والاستقلال عن الدولة العثمانية، كما سنرى في الفصول القادمة.
ان البدو يعدون مقياسا لقوة السلطة، فالاهتراء الإداري، والوهن العسكري، والضمور الاقتصادي... يعني: سعي البدو للسيطرة على الطرقات، ونهب المناطق المأهولة بالسكان والاعتداء على القوافل التجارية والعساكر.
وقبل التحدث عن مكانة البدو في تاريخ فلسطين في الحقبة العثمانية أود أن أعطي نبذة عن الهجرات البدوية إلى فلسطين قبل تلك الفترة.