هذا كتابي الثاني بعد كتاب «صناعة شهود الزور»؛ وللمفارقة فإنَّ ما احتواه الكتاب الأول شرح مسبقاً الأحداث التي اهتم بها هذا الكتاب، خصوصاً في مسألة الصراع على سوريا وفي سوريا.
أنت هنا
قراءة كتاب الوجه الآخر للثورات العربية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طائراتنا في الجو
يوم الحادي عشر من آذار، وأثناء اجتماع الدول الأوروبية الـ27 في بروكسيل لبحث الموضوع الليبي ظهر خلاف كبير بين فرنسا وألمانيا(6)، وقد أشار وزير الخارجية الألماني في مداخلته إلى إشكالية الاعتراف بالمجلس الوطني الليبي (إنَّ أعضاء المجلس هم من أتباع القذافي السابقين ولا أنصح بهم) قال الوزير الألماني، غير أن ما ساعد ساركوزي صدور بيان قاس عن جامعة الدول العربية في ذلك اليوم بالتحديد يدين بشدة نظام القذافي. وقد تزامن بيان الجامعة العربية في ظل رئاسة قطر(7) مع اجتماع المجموعة الأوروبية نتيجة تنسيق مسبق بين ساركوزي وحمد بن جاسم آل ثاني وزير الخارجية، لمساعدة الرئيس الفرنسي في إقناع الدول الأوروبية المعترضة على التدخل في ليبيا. وهذا ما حصل بالفعل، إذ اتفق المجتمعون في بروكسيل أن المجلس الانتقالي في بنغازي جهة محاورة سياسية شرعية مثل الآخرين، ولكن دون تحديد هوية هؤلاء الآخرين. كانت فرنسا تسعى للاعتراف به (كلما أسرعنا بالاعتراف به أصبحت تصريحاته تؤخذ على محمل الجد) يقول كلود بيسون مستشار ساركوزي. لم تكن ألمانيا متحمسة للتدخل العسكري في ليبيا كما أنَّ الولايات المتحدة لم تكن أيضاً في هذا الوارد؛ والواقع أن العلاقة بين ساركوزي وأوباما لم تكن جيدة طوال سنوات حكم الرجلين(8) بينما لا تستيغ المانيا عودة فرنسا للعب دور عسكري في العالم خصوصاً في بلد غني بالنفط مثل ليبيا حيث للشركات الألمانية استثمارات كبيرة(9). وكان موقف إيطاليا أيضاً ضد القصف الجوي، وذلك يعود إلى أنَّ روما المستعمر القديم لطرابلس خشيت خسارتها السوق الليبية، وهي أكبر مستثمر فيها وهذا ما حصل بالفعل.
في الاجتماع، طرح وزير الخارجية الألماني إمكانية فشل الضربات الجوية متسائلاً: هل سوف نرسل قوات برية؟ غير أن الوضع تغير في الأيام اللاحقة بعد تلقي فرنسا الدعم من منظمة المؤتمر الإسلامي، ومن مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، فتقدمت في 17 آذار بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، وتم التصديق عليه تحت رقم 1973، قضى بإقامة حظر جوي في السماء الليبية، وسمح باستعمال كل الوسائل المتاحة لحماية المدنيين في إشارة غير مباشرة إلى العمل العسكري(10). وقد صوّتت على القرار عشر دول وامتنعت خمس دول عن التصويت من بينها روسيا والصين وألمانيا. وقد تمكن الفرنسيون من إقناع روسيا والصين أنَّ الهدف هو حماية المدنيين، ولن يكون هناك تدخل عسكري ولا إسقاط للنظام، غير أنَّ ساركوزي لم يفِ بوعده وهذا ما أغضب الروس والصينيين الذين لا يتوقفون عن تذكير الغرب بالخديعة الليبية التي أوقعهم فيها كلما حاولت الدول الغربية تقديم مشروع قرار ضد سوريا. وقد صارح نائب وزير الخارجية الصيني وفداً من المعارضة السورية أثناء اجتماعه بهم في بكين بهذا الموضوع قائلاً: لن نسمح لهم بالعمل في سوريا كما فعلوا في ليبيا، لقد كذبوا علينا وتعاملوا معنا بطريقة غير محترمة وصبيانية؛ في كل الاجتماعات التي عقدها الفرنسيون معنا ومع الروس قطع لنا (جوبيه) كل الوعود والالتزامات بعدم السعي لإسقاط النظام الليبي لكنهم غدروا بنا، ونحن لم نعد تصدقهم ولن نسمح لهم باستغفالنا مرة أخرى(11).
كان نيكولاي ساركوزي قد اتخذ قرار الحرب لإسقاط القذافي، ولم يكن ينقصه سوى موافقة شكلية من مجموعة أصدقاء ليبيا التي دعاها إلى اجتماع بتاريخ 19 آذار، أي بعد يومين من القرار 1973. وبين 17 و 19 من الشهر ذاته(12)، كان الرئيس الفرنسي يعد العدة للحرب بعد أن حصل على موافقة رئيس وزراء بريطانيا (دافيد كاميرون)، أما قطر والسعودية فقد كانتا تنسقان معه منذ البداية.
في 18 آذار جمع الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه القيادة العسكرية الفرنسية طالباً إبداء الرأي بإمكانية توجيه ضربات عسكرية في ليبيا، وكان رأي العسكر بعد إجراء مراجعة للإمكانيات الليبية التي تقتصر على صواريخ سام 6، أن هذا الأمر قابل للتنفيذ بنجاح مع احتمال خسارة طائرة أو طائرتين(13).
صبيحة يوم 19 آذار، وقبل الاجتماع الموسع لمؤتمر أصدقاء ليبيا، كان نيكولاي ساركوزي محاطاً بوزير خارجيته آلان جوبيه وبمستشاره السياسي جان دافيد ليفيت عرّاب القرار 1559، وبقائد أركان الجيش الفرنسي الأميرال (ايدوارد غيو)، ورئيس الأركان الخاص بالقصر الجمهوري الجنرال (بنوا بوغا)، وقد حضر الاجتماع رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون ومستشاره العسكري، فضلاً عن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون يرافقها ضابط كبير من قيادة الأركان الأميركية.
تحدث الرئيس الفرنسي عن الوضع الخطير في بنغازي، وعن الحاجة الطارئة للتدخل شارحاً أنَّ رتلاً كبيراً من الدبابات يقترب من بنغازي مع لواء بكامل عتاده، وأنه يجب ألاّ نخضع لتحديات القذافي. غير أنَّ الضابط الأميركي كان له رأي مغاير: طالما بطاريات الصورايخ المضادة للطائرات التابعة للقذافي لم تدمر، أرفض التدخل، نحن معرضون لخسارة طائرات، وهذا سوف يكون هزيمة رمزية كبيرة للتحالف، وأيده بذلك العسكري البريطاني.
أنا مستعد أن آخذ هذا الخطر على عاتقي قال نيكولاي ساركوزي، أنا لن أفعل شيئاً دون موافقتكم، وكشف بوضوح عن نيّاته بالقول: طائراتنا أقلعت في الجو، ونحن لن نفعل شيئاً دون رضاكم، الأوامر أعطيت، وعند الساعة التاسعة والنصف يمكن للطائرات أن تعود أدراجها إذا لم أحصل على الموافقة الجماعية.
كان اجتماع أصدقاء ليبيا غريباً بشكل لافت؛ زعماء أنظمة عربية قمعية وملكية يريدون إسقاط نظام عربي قمعي مثل أنظمتهم بحجة الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى جانب زعماء الدول الغربية التي كانت حتى الأمس القريب تستقبل القذافي، وعلى رأس هؤلاء الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي(14).
أعاد الرئيس الفرنسي كلامه عن المذبحة القريبة التي سوف تقع في بنغازي مستشهداً بكلام القذافي وابنه سيف الإسلام؛ وللحقيقة فإن القذافي بغبائه السياسي ومزاجه وجنونه قدم للغرب ولساركوزي الفرصة تلو الفرصة، فيما كانت روسيا والصين عاجزتين عن التدخل الفعلي لإنقاذه لأن جوبيه حمل معه إلى مجلس الأمن تعابير القذافي (زنقة زنقة ودار دار أو الجرذان والذبح في كل منزل)(15).
الجميع دون استثناء رددوا رغبتهم بإيقاف القذافي، وهنا تدخل الرئيس الفرنسي ليقول: طائراتنا حالياً في الجو باتجاه ليبيا، ولكنها لن تدخل المجال الجوي الليبي إلا بتوافر شرط واحد هو موافقتكم على إعطائي الضوء الأخضر... أعطى كل من على الطاولة موافقته، وبعد ظهر يوم 19 كانت الطائرات الفرنسية تدمر دبابات تابعة للقذافي على مداخل مدينة بنغازي(16).