في روايته الأولى يتحدث الكاتب اللبناني ابراهيم عيسى عن مغامرته الثلاثية، يتأرجح قلمه على زخّات فقدانه والده، فرح يرحل في شبابه، ثم حبيبة لا ندري إنْ كانت القاتلة أم المقتولة أم الاثنتين معاً، أخيراً إلى وطن أشبعه سموم الطائفية.
قراءة كتاب إلى اللقاء قاتلتي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وضعت الورقة والقلم وكتبت «نهاية النهاية»...
لا أدري إن كانت قصيدة أم وصية أم بعض أفكار جالت في خاطر دقائقي الأخيرة...
أوصيت صديقتي آريا أن توصل هذه القصيدة إلى أهلي، لربما قرروا أن يحفروها على قبري أو يعتبروها ورقة نعي.
الثالثة إلا ربعاً، دقات قلبي تزيد... مسرعة هي كحصان في سهل واسع، الرعشة تصيبني، العرق يتدفق من جبيني كدموع أرملة...
حالات نفسية كثيرة تعصف بي، رجفة لا أستطيع وقفها...
وصلت إلى البيت، وببرودة لم أعرفها من قبل...
فتحت البراد، أخذت علبة الدواء، علبة خلاصي، حبوب سكوني، أقراصاً مسكنة لروحي...
هي عشرة، عشرة أقراص، لا أدري معنى الأرقام هنا في لحظاتي الأخيرة هذه، لا الرقم ثلاثة يعني لي شيئاً ولا حتى عشرة أيضاً، وهل يُفترض أن تعني لي الأرقام شيئاً، في هذه اللحظة؟ لا... على اللحظة فقط أن تعني لي...
تدهم الأرقام لحظاتي، حتى الأرقام التي طلبتها عبر هاتفي آخر رقم كان رقمها... بعد عدة اتصالات ردّت... ردّت سيدة لحظتي الأخيرة، وسيدة كل لحظة من حياتي... أجابت السيدة العظيمة التي تتوّج كل لحظة، وكل تفصيل، وكل نفس، وكل وجع، وكل بسمة، وكل دمعة، وكل شيء فيّ.
وهي تجيب تناولت الحبوب العشر كلها دفعةً واحدة، أصبح الموت في داخلي، الآن أصبح الطريق إلى النهاية في داخلي، أصبح المجهول يسكنني... المجهول وصوتها..
ماذا هناك؟ ببرودة أجابت.
- - لا شيء، سماع صوتك فقط للمرة الأخيرة هو سيد كل شيء.
- - ماذا تعني؟
- - لا شيء، قررت وضع حد لحياتي، لأحلامي، لطموحاتي، لبكائي، لفرحي، لبسمتي، لدمعتي، لنشوتي، لصراخي، لحبي لك.
- - إن استطعت أن تصلي إلي، أرجوك خذيني إلى المشفى ذاته الذي توفي فيه أبي، فهناك أريد اللحاق به، من حيث هو رحل، لن أذهب إليه من طريق ثانٍ...
كفاك لعباً... كفاك حركات صبيانية، أنا لا أستحق هذا كله...اتصل بغيري..
- - وكأنها الصاعقة نزلت علي، وكأنها هذه هي اللحظة القاتلة، وكأن روحي لن تنتظر مفعول الأدوية بل استشهدت عند هذه الكلمة. كلمة كانت كفيلة بقتلي...ولو عرفت قبلاً لما استنجدت بحبوب لموتي، لانتظرت موتي على يديها حين نطقت.
كنت أطمح أن أموت وأنت بقربي...أمنية فقط.
- - أقفلت الهاتف... قبعت داخل سريري منتظراً ساعة الإقلاع... رحلة إلى المجهول، إلى حيث لا أدري، إلى حيث تمكث الحقيقة الكاملة إلى اللّامكان...
كان صديقي الممرض قد استشعر كلّ شيء، اتصل بإخوتي، دخلوا البيت مذعورين، وأنا نصف جثة هامدة، تلتحف بتذكرة رحيلها الأبدي. المسعفون حولي وأنا بين الواقع والمجهول، أتمسّك بالمجهول أكثر من الواقع... أريد بكل ما في نفسي من شغف أن أنتقل إلى الضفة الثانية...
فراغ أبيض... بياض ناصع... ضباب كثيف... لا أحد ينتظرني هناك، لا أبي الذي أتوق إلى رؤيته، ولا فوج الملائكة المرنمين ترنيمة الموت...
لا أحد ولا شيء...
كنت أظن أن هناك من ينتظرني، إلا أن أحداً لم يكن في استقبالي...
خفت في تلك اللحظة من أن أذهب إلى مكان فارغ، غير مأهول، أستوطنه وحدي... ذعرت كثيراً حين شاهدت الفراغ، ولكن لم أقرر العودة، أدركت أن الرحلة بدأت وعليّ الوصول إلى النهاية إلى حيث لا شيء، وإلى حيث أي شيء ممكن...
حين فتحت عينيّ كنت أظن أني أمسك بيد أبي، وأنني وصلت إلى نهاية رحلتي... غير أنني حين أدرت وجهي رأيت الطبيب ممسكاً يدي... أدركت أن رحلتي لم تقلع بعد، حتى أنني لم أحجز تذكرتي، ولم أجلس في مقعدي أيضاً... لِمَ؟ فأنا لا أريد البقاء هنا... حتى موتي صعب أن أصل إليه... صعب أن أصل إلى أي شيء أشتهيه وأريده،... حتى أنت، كان صعباً، لا بل مستحيلاً الوصول إليك... وبما أن المستحيل يستوطن عالمي وكياني... قررت أن أغير كل شيء علِّي أغير قليلاً من هذا المستحيل ليصبح ملموساً أو حقيقياً...
التقطت الأوراق والقلم وقررت الكتابة، كتابة كل الأحداث التي وقعت، كتابة الذكريات، كتابة حبي لك وكتابتك، ...كي لا تصبح جميعاً طي النسيان، أو كي لا تندرج في خانة المستحيل، وكي أغير بها المستحيل إلى الحقيقة.
...كي أغير كل شيء، قررت الكتابة...