"جنة الفدائيين"، للكاتب السعودي محمد الراشد؛"جنة الفدائيين" هي أول عمل روائي له. أرمان...
أنت هنا
قراءة كتاب جنة الفدائيين
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
2
بعد مرور عام على تلك الحادثة...
في سوق مدينة قزوين صباحاً، جاء شاب ملتح، ظريف المنظر، نحيف وقصير القامة، في بداية الثلاثينيات من عمره، يمشي شاقاً طريقه بين الناس حتى توقف بجانب شاب آخر أصغر سناً ومتنكرٍ بالزي الخاص بالصوفية، تلفت بسرعة ثم همس له: «أتراه... الفتى الواقف إلى جانب دكان الطحان هناك... أتراه؟».
«أجل» همس له الصوفي دون أن يلتفت.
«لقد اشتريت من صاحب الدكان ذاك دقيقاً وكلفت الفتى بتوصيله إلى أحد البيوت البعيدة من هنا، وقلت له يعيش هناك فقراء محتاجون، وهذا الدقيق صدقة لهم، ولكنني لا أريد أن يعرفوني فيستحوا مني، فوافق على إيصاله إليهم نيابة عني مقابل مبلغ من المال، فأعطيته كيس النقود، عليك بتتبعه حتى يصل إلى هناك، وحين يختلي بنفسه وتجد الفرصة سانحة عليك بأداء المهمة على أكمل وجهٍ واحرص على أن لا تسبب فوضى وجلبة، أراك عندما تنتهي، بالتوفيق يا (أرمان)».
وانسحب مغادراً.
أما أرمان المتنكر بزي الصوفية فظل يراقب الهدف عن بعد وهو ينتظر صاحب الدكان ليجهز له الدقيق ولما يفتح كيس النقود بعد، ولو لم يفعل ستكون عويصة، لأنه لا يستطيع تنفيذ المهمة بالوجه المطلوب حتى يرى الهدف المال، ويتعلق فؤاده به كما تتعلق السمكة بخطاف الصنارة.
هذه هي المهمة الأولى له منذ أن انضم إلى الجماعة الإسماعيلية الباطنية أو جماعة (الفدائيين)... حيث سيقوم بإجراء اختبار لبعض الشبان، يعرف من خلاله مقدار شجاعتهم، وإصرارهم، وكذلك مهاراتهم القتالية.
ولابد من أن تكون لدى هؤلاء الشبان بعض المؤهلات الضرورية قبل أن يقع الاختيار عليهم، منها حداثة السن، وصحة الجسد، وسلامة العقل، واتسامهم ببعض سمات التدين. والبحث عن شبان أو فتيان لديهم هذه المؤهلات أو شيء منها، هو مهمة شخص آخر هو (الباحث) الذي يرافق (الفدائي) في الغالب في مثل هذه المهام، والباحث هو شخص ذو بصيرة حادة، وفراسة نافذة، يستطيع تمييز طبائع الناس وسماتهم من خلال نظرة واحدة إلى وجوههم.
وبعد لحظات من الانتظار قرفص الفتى وأخذ الكيس ثم حل رباطه، فتحه وحدق إلى داخله، وبالطبع جحظت عيناه، وفغر فاه، فكان ذلك المنظر طريفاً لأرمان الذي قال مغمغماً: «أجل، هكذا يا صاحبي، الآن أصبحت مؤهلاً للاختبار».
قام الفتى بتفقد الناس من حوله فتلفت بسرعة وارتباك ثم نثر النقود في حجره متبسماً بحبور وبريق واضح قد لاح في عينيه.
أعاد وضع النقود إلى مكانها داخل الكيس ثم دسه في جيبه ولم يكف عن التبسم، حتى ساعده صاحب الدكان على وضع الدقيق فوق ظهره، حينئذ كشر واحمر وجهه وبرز عرق غليظ من جبينه.
«أخيراً» قال أرمان. وهو يقترب منه أكثر، ثم اختبأ خلف ثلة من الناس لم يبالوا بوجوده بالقرب منهم، وبقي ثابتاً في مكانه حتى أصبحت هناك مسافة كافية بينه وبين الفتى تسمح له بتتبعه دون أن يلحظ ذلك.
مشى خلفه حتى خرج من السوق. دخل في زقاق ضيق مليء بأناس وأطفال يلعبون أمام أبواب البيوت المفتوحة. توقف الفتى قليلاً ليلتقط أنفاسه فاختبأ أرمان على الفور بخفة، ودمدم: «... لا يزال المكان بعيداً يجب أن تصمد... هيا».
نهض وأكمل مسيره وتتبعه في خمسة شوارع حتى وصل إلى السادس حيث يوجد المكان المطلوب. وهو بيت مهجور داخل شارع يكاد يكون مهجوراً أيضاًً، طرق الباب دون أن يتلقى أي إجابة.
وضع الدقيق فوق عتبة الباب ثم طرقه بعنف.
«أليس هذا هو البيت»؟ تلفت عن يمينه وشماله لعله يجد أحداً يسأله، ولكن الشارع كان فارغاً تماماً وصامتاً صمت القبور لولا زقزقة العصافير فوق الحيطان والأشجار.
«بلى هذا هو، لقد كان وصفه واضحاً، فلماذا لا يجيبني أحد» تململ وطرق الباب طرقاً أشد من السابق حتى احمرت راحة يده. «هممم، يبدو أنه لا أحد هنا فعلاً».
في هذه اللحظات جاء أرمان المتنكر بزي الصوفية يمشي الهوينا، مطأطئاً برأسه من آخر الشارع.
غمغم الفتى عندما رمقه: «سأسأله لعله يعرف شيئاً » وأثناء مروره بادره بالسلام، فلم يرد عليه سلامه شفهياً وإنما بإشارة من يده ثم أكمل مسيره بسكينة.
سأله الفتى «يا أخ، أتعرف أهل هذا البيت؟».
التفت إليه، واقترب منه حتى وقف إلى جانبه دون أن ينبس بكلمة، بل تقدم وطرق الباب بنفسه طرقاً خفيفاً مرةً ومرتين وثلاثاً، فلم يجبه أحد، ثم هز كتفيه.
سأله ثانيةً: «هل تعرفهم يا سيد لأن أحداً ما أوكل إليّ إيصال هذا الدقيق إلى هنا». فهز كتفيه ثانية وهو ينظر إلى الباب ففهم الفتى بأن هذا الصوفي ربما يكون، أبكم، أي لا يقدر على النطق.
«ماذا سأفعل بهذه الصدقة إذا... هل أتركها هنا... أظن ذلك» وعندما هم بالمغادرة تداركه أرمان وأمسكه من معصمه بلطف، ثم أشار إليه بسبابته بحزم ثم إلى الدقيق وأخيراً إلى السماء مما يعني أنك مسؤول أمام الله عن هذه الصدقة.