كتاب " تاريخ لبنان الطائفي " ، تأليف د. علي عبد فتوني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب تاريخ لبنان الطائفي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تاريخ لبنان الطائفي
إن تلك التشريعات التي قامت عليها حياة الطوائف غير الإسلامية تجلّت بالقوانين الوضعية التي أصبحت نتيجتها قانونياً متشابهة مع المسلمين في الدولة العثمانية، حيث ساد مبدأ المساواة بشكل صريح بضمان الحريات العامة للجميع وعلى رأسها الحرية الدينية، ولا سيما في الدستور العثماني الصادر عام 1876 الذي يقول في المادة السابعة عشرة: «إن العثمانيين، جميعهم متساوون أمام القانون، كما إنهم متساوون في حقوق المملكة ووظائفها ما عدا الأحوال الدينية والمذهبية»[33].
إن نظام الملل الذي حاول في البدء أن يرى في الخصوصيات المذهبية مجالاً له شيء من الحرية والاستقلالية في إطار الدولة ومؤسساتها وقوانينها بشكل متوازن، ساعد على إبراز التمييز الطائفي منذ البداية، لا بين المسلمين وأهل الكتاب فحسب، بل بين الطوائف الإسلامية نفسها[34]. إذ اعتبر العثمانيون أنفسهم ممثلين «للسنّة» أو الإسلام الحنيف، وعاملوا الشيعة والطوائف غير السنة من دروز ونصيرية، معاملة قاسية وعرفوا معها أنواعاً من الاضطهاد لم تعرفه أية طائفة من طوائف أهل الكتاب. وكانت هذه التدابير باسم «الشريعة الإسلامية» عاملاً مؤثراً في تقويض بنيان السلطنة[35]. إذا اعتبرت الطوائف الإسلامية كافة من غير السنة، أن الدولة العثمانية تسعى دوماً إلى اضطهادها الطائفي، فأكثرت من حركات التمرد والعصيان عليها وشكلت عوامل التفجير الدائم في داخلها[36].
أما على صعيد الطوائف غير الإسلامية، فعلى الرغم من القوانين والتنظيمات التي أصدرتها الدولة العثمانية للمحافظة على العلاقة معها ومنعاً لأي تدخل أوروبي، استمرّ شعورها بالعداء للسلطنة. والعامل الرئيسي لهذا الشعور العدائي نحو الأتراك هو أن المسيحيين كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنين غرباء في بحر شاسع من السيادة العثمانية[37]. وفي الوقت نفسه كان اللبنانيون المسيحيون يشعرون بضرورة توفير نوع من الحماية الأجنبية، عن طري ق فرنسا أو عن طريق النمسا ، لكنهم آثروا الحماية الفرنسية لأنها كانت حامية الموارنة في الشرق الادنى[38] .
وبدأ رجال الدين المسيحيون يتدخلون في شؤون الولاية ، واتخذ قناصل الدول الأجنبية بعضهم وسائل للتذرع بالتدخل في شؤون الولاية[39] . وعندما كان الوالي يطلب من رؤساء الطوائف دفع الأموال الأميرية المترتبة عليهم كانوا يحاولون التملص بتأثير وتحريض من القناصل ، كما أن بعض أفراد الطوائف المسيحية اعتبروا فرنسا الحامية الطبيعية للمسيحيين العثمانيين ، والوطن الثاني لمسيحيي سوريا ، وطلبوا منها أن تفرض سيادتها على جبل لبنان[40] .
يلاحظ أن نظام الملل العثماني الذي استهدف تنظيم العلاقة بين الطوائف شك ل منفذا ً للدول الأوروبية بتعميق الصراعات الطوائفية المحلية وتلقيحها بمفاهيم أوروبية انفصالية ، ولاسيما بعد أن كان التغلغل الأوروبي عبر شت ى أشكاله قد أسفر عن تحولات اجتماعية وعلاقات جديدة بين القوى المنتجة[41] . كما تزاوج مع حاجات التوسع الأوروبي التي راحت تأخذ أشكالا ً قانونية في علاقاتها مع الباب العالي عبر الامتيازات الأجنبية التي أدت إلى التبشير الارسالي[42] .
وقد برز من الطوائف المسيحية التي عززتها تلك الإرساليات فريق من المثقفين وعوا عالم أوروبا الجديد ، بل اعتبروا أنفسهم جزءا ً منه ، ولاسيما الموارنة الذين أفادوا الإفادة القصوى ، ولعبوا فيما بعد دوراً هاماً في تاريخ توازنات جبل لبنان[43].
وساعدهم نظام الملل الذي كان عائقا ً كبيرا ً في طريق تمازج أبناء الطوائف اللبنانية المختلفة ، حيث ظل المسلمون يعتبرون الدولة العثمانية دولتهم ، يستسلمون لحكمها لكونها دولة الخلافة الإسلامية ، والمسيحيون يشعرون بغربتها لأنها اعتبرتهم رعايا[44] . وبرزت من خلال ذلك الأطماع الاستعمارية في المنطقة، وبدأ التحضير لجعل الطوائف المسيحية واليهودية عامل تفجير آخر ضد السلطنة ، بحيث عرف القرن التاسع عشر ، وهو عصر الاستعمار ، الكثير من الحركات الطائفية الرامية إلى إيجاد أوطان قومية طائفية .