كتاب " السرد والاعتراف والهوية " ، تأليف د. عبد الله إبراهيم ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب السرد والاعتراف والهوية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
السرد والاعتراف والهوية
المقدّمة
يقترن أدب الاعتراف بالهُويّة، سواء أكانت هُويّة فرديّة أم جماعيّة، فلا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعيّة والثقافيّة التي يشتبك بها؛ ذلك أنّ أدبه يقوم بمهمّة تمثيلها، وبيان موقعه فيها، فلا يطرح موضوع الهُويّة في السرد، والاعتراف بها، إلاّ على خلفيّة مركّبة من الأسئلة الشخصيّة والجماعيّة، وتبادل المواقع فيما بينهما؛ فالكاتب منبثق من سياق ثقافيّ، وتجد الإشكاليّات المثارة كافّة في مجتمعه درجة من الحضور في مدوّنته السرديّة·
لكنّ أدب الاعتراف محطّ شبهة وموضوع ارتياب؛ لأنّ الجمهور لم يتمرّس في قبول الحقائق السرديّة والواقعيّة، فيرى في جرأة الكاتب على كشف المستور سلوكًا غير مقبول، وإفراطًا في فضح المجهول، فالاعتراف محاط بكثير من ضروب الحذر في مجتمعات تقليديّة تتخيّل أنّها بلا أخطاء، فتبالغ في ذكر نِعَم الله عليها، وكأنّها هبات خُصّت بها دون سواها، وتتحاشى ذكر عيوبها، وتتوهّم أنّها تطهّرت من الآثام التي واظبت على اقترافها مجتمعات أخرى، فتدفع المخاوف كثيرًا من الكتّاب إلى اختلاق تواريخ استرضائيّة لمجتمعاتهم، وابتكار صور نقيّة لذواتهم، متجنّبين كشف المناطق السرّيّة في تجاربهم، وإظهار المسكوت عليه في مجتمعاتهم، فصمتوا عمّا ينبغي عليهم قوله أو زيّفوا فيه، وربّما أنكروا وقوعه، يريدون بذلك الحفاظ على الصور الشفّافة لهم ولمجتمعاتهم·
وقد أفضى ذلك إلى ظهور أدب يهرب من كشف البطانة الذاتيّة الحميميّة، ويلوذ بالقضايا المشتركة بين الجميع، فثمّة إحجام عن التركيز على البعد الجوّانيّ للشخصيّات، حيث تقبع المادّة الأكثر أهميّة في أدب الاعتراف، وقد نهلت الآداب السرديّة العالميّة من هذه المنطقة شبه المحرّمة، وبيّنت موقع الكاتب في مجتمعه وهُويّته ورؤيته للعالم· ومع ذلك لم يزل أدب الاعتراف في الأدب العربيّ الحديث يتلقّى إمّا بوصفه جملة أسرار، أو على إنّه مدوّنة فضائح، فسوء الظنّ يتربّص بالكتّاب والقرّاء على حدّ سواء، ولا غرابة أن نجد ندرة فيه، لا يقبل البوح بالجوانب الشخصيّة، ولا بالآراء المخالفة للإجماع العامّ؛ إذ يعمّق الخوف الضمنيّ من المتلقّين رغبة في الصمت لدى الكاتب، فيتجنّب ذكر الوقائع غير المقبولة، وهذا يطمر في طياته تزييفًا للتاريخ الشخصيّ وللتاريخ العامّ، ويجعل من خداع الذات والآخرين سلوكًا مقبولاً وشائعًا، فتتوارى الوقائع المهمّة، أو يقع تخطّيها، وكلّ هذا يتعارض مع وظيفة أدب الاعتراف الذي يستبطن المناطق المخفيّة من حياة الأشخاص ، ثمّ المجتمعات بعد ذلك·
يضع أدب الاعتراف- ومثاله الأكثر وضوحًا السيرة الذاتيّة والسيرة الروائيّة والرواية التي تستفيد من التجارب الذاتيّة للمؤلّف- الكاتب أمام المسؤوليّة المباشرة لصنّاع الرأي العامّ؛ لأنّ الاعتراف بذاته يقع في المنطقة المتوتّرة بين رغبة الجمهور في براءة المشاهير، ورغبة هؤلاء في التطهّر ممّا لحق بهم من أخطاء اقترفوها عن قصد أو غير قصد خلال حياتهم· ويحول التنازع بين الصورة الخارجيّة والداخليّة للكاتب دون الاتفاق على حلٍّ مرضٍ للطرفين، فالجمهور الأدبيّ يصاب بخيبة أمل حينما يعرض الكاتب اعترافا صريحا عن حياته، وأفكاره، ومعتقداته؛ لأنّ الصورة النمطيّة للكاتب - وكثير منها من نسج الخيال- تخرّب في بعض أجزائها· وهذا تعبير عن رغبة يبديها متلقّون ينتظرون نقاء مطلقًا دون أن يفكّروا في نقائهم الخاصّ ، وفي مقابل ذلك يحرص بعض الكتّاب على عدم التنكّر للأخطاء التي انزلقوا إليها في وقت مضى، سواء أكانت شخصيّة أم أيدلوجيّة، فهم يريدون تنقية صورهم الجوّانيّة حتى لو اقتضى ذلك البوح بالأسرار الخاصّة وبالأخطاء·
وتتّصل هذه القضيّة بأخرى أكثر أهميّة، في سياق البحث في الصلة بين السرد والاعتراف والهُويّة، فالجمهور يضغط التاريخ الشخصيّ للكاتب في لحظة واحدة، وهي لحظة معرفته خلال القراءة، فيما الكاتب صيرورة من التحوّلات التي لا تنتهي، ولا يعاب على المرء الوقوع في الخطأ، إنّما يعاب عليه نكرانه له، أو عدم تخطّيه، فينبغي عدم الخوف من اقتراف الكاتب للخطأ، ولكن يحسب عليه تقبّله والتعايش معه، فالانزلاق إلى الخطأ أمر تصعب السيطرة عليه بسبب تحوّل الوعي الخاصّ بالكاتب من درجة إلى أخرى، وبين مرحلة وأخرى، وصولاً إلى ما يصطلح عليه لوكاش بـالوعي الأصيل بنفسه وعالمه، وذلك يتأخّر كثيرًا، وقد لا يأتي أبدًا· وبعبارة أخرى يتعامل الجمهور مع شخص جاهز، فيما يتعامل الكاتب مع ذاته بوصفها هُويّة متحوّلة، وحالة الاعتراف بالنسبة إليه جزء من عمليّة التحوّل، لكنّها تخدش الصورة الرمزيّة له في المخيال العامّ·
ليس من المفيد أن يأتي الاعتراف منقطعًا عن السياق الحاضن له، وإلاّ أصبح فضيحة، فالقارئ يبحث عن ذروة، ويهمّه أن يتعلّق بحادثة مثيرة، أمّا الكاتب فمشغول بسياق كامل من التحوّلات الفكريّة والجسديّة، وهو ما يشكّل صيرورة هُويّته، وحينما يعيد تركيب تاريخ حياته بالتمثيل السرديّ، فمن الطبيعيّ أن يدرج الأحداث في سياق منظور خاصّ لنفسه ولمجتمعه وللعالم الذي يعيش فيه· ومن الخطأ انتقاء لحظة عابرة وتركيز الاهتمام عليها في منأى عن السياق الحاضن لها، فذلك انتهاك مقصود يهدف إلى تخريب فكرة الاعتراف، والترويج لغاية معيّنة توافق أيدلوجيًّا القارئ الذي يقوم بذلك· ولا بدَّ من الأخذ في الحسبان كيفيّة استعادة أحداث الماضي والموقف منها، وكيفيّة إدراجها في الكتابة السرديّة·
كُتب كثير من الكتب لتكون مدوّنات اعترافات، وقليل منها تمسّك بالهدف الاعتباريّ للكتابة، وهي أنّ ما يُكتب وما يُرغب في استعادته، ينبغي أن يكشف خريطة التحوّلات الاجتماعيّة والفكريّة والشخصيّة، وبيان علاقة الكاتب بكلّ ذلك تأثّرًا وتأثيرًا، وإلاّ أصبحت الكتابة خداعًا، ثمّ أخيرًا ينبغي أن يُمنح الكاتب الفرصة والمناسبة والحقّ في تقديم اعترافه في الوقت الذي يراه مناسبًا· إنّ للاعتراف قيمة تفوق كثيرًا قيمة الصمت أو التزوير، ولا بدَّ أن يمنح المعترفون فرصتهم لقول ما يريدون قوله· وتجنّب الخداع واصطناع التواريخ المزيّفة، فإعادة التعريف بالهُويّة، كائنة ما كانت، يفوق أمر تعريفها الابتدائيّ·
يتنزّل أدب الاعتراف خارج السياق الرسميّ للأدب وللمجتمع الحاضن له، فلم تزل الثقافة العربيّة تتبرّم منه، وما زالت هذه الفكرة عصيّة على الفهم العامّ، وفي كثير من الأحيان يوصم المعترف بأنّه الشخص الذي غدر بمجتمعه، وتنكّب له بأن فضّل اختيارًا فرديًّا تاركًا الجماعة في وضع خامل خارج منطقة اهتمامه، أو إنّه فضح البطانة الخفيّة المسكوت عنها، فلا يقع استيعاب كامل لاعترافاته·