كتاب " فلسطين والفلسطينيون " ، تأليف د. عصام سخنيني ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2003 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب فلسطين والفلسطينيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فلسطين والفلسطينيون
(3) بلستيا: التأسيس التاريخي
إن هذا الفراغ النسبي في السكان الذي أشرنا إليه سرعان ما امتلأ بقدوم موجة هجرة سكانية جديدة إلى أرض كنعان هي التي عرفت بالأدبيات التاريخية باسم الفلستيين أو البلستيين Philistines والتي أعطت المنطقة اسما جديدا نسب لها واستمر منذ ذاك في التفاعل على مدى قرون عدة مقبلة· وهناك اختلاف بين المؤرخين حول الموطن الأصلي لهذه المجموعة السكانية، وقد تعددت الآراء بين أن يكون هذا الموطن القوقاز، أو الأناضول، أو قبرص، أو كريت، أو اليونان، أو إليريا القديمة على الشواطئ الشرقية لبحر الأدرياتيك، أو شمال أفريقيا، أو الجزر الغربية في البحر المتوسط، أو حتى شمال أوروبا·(14)
غير أن النظرية الأكثر شيوعا والأرجح تاريخيا هي التي تذهب إلى أن الموطن الأصلي لهذه المجموعة البشرية هو جزر بحر إيجة وقد خرجت من ذلك الموطن في أثناء، أو بعيد أحداث دفعتهــــا دفــعا إلى البحث عن موطن جديد لتعرف فورا بصفة أقوام البحر· فقد كانت هذه الجزر تنتمي إلى ما يعرف بالحضارة المسينيــــة Mycenaean التي نسبت إلى مسينا في شبه جزيرة البلوبونيز في جنوب اليونان، وازدهرت ما بين 0 0 4 1 و0 0 2 1 ق·م· وقد انهارت هذه الحضارة في نهاية هذه الفترة بفعل عوامل عديدة منها موجة الجفاف التي سادت عصر البرونز الأخير، وقد سبقت الإشارة إليها، وغزو أفواج من البرابرة للمناطق اليونانية ومنها مسينا، بالإضافة إلى موجة من الزلازل العنيفة التي ضربت المنطقة· وقد نتج عن ذلك كله خراب ودمار كبيران أصابا مدن هذه الحضارة بما فيها تلك التي كانت في جزر بحر إيجة، ما دفع سكانها إلى الهجرة خارجها على شكل جماعات مسلحة، مصحوبة بأسرها، تجوب البحار بحثا عن مأوى جديد· ومن هذه الجماعات واحدة اتجهت نحو سواحل أفريقيا الشمالية وتعاونت هناك مع الليبيين الذين كانوا يتربصون منذ زمن طويل للانقضاض على مصر، وتشكل من الفريقيين تحالف اتجه نحو الدلتا في محاولة للاستقرار فيها· إلا أن الفرعون مرنفتاح تصدى لهم بقوة وردهم عن حدود مصر البرية والبحرية في معركة فاصلة جرت حوالي العام 0 2 2 1 قبل الميلاد(15)· وما يهمنا من أقوام البحر هذه أن مجموعة منها قصدت آسيا الصغرى، ومن هناك اتجهت جنوبا على امتداد الساحل السوري باتجاه أرض كنعان وقد دمرت في طريقها عددا من المراكز الكنعانية (التي كانت في واقع الأمر تعاني من تقلص عدد سكانها بسبب موجة الجفاف) مثل راس شمرا وجبيل(16) واضعة نصب عينيها الوصول إلى مصر· غير أن الفرعون رعمسيس الثالث، خليفة مرنفتاح، والذي حكم في الفترة ما بين حوالي سنة 5 9 1 1 وحوالي سنة 4 6 1 1 ق·م· تصدى لهم في البر والبحر (حوالي العام 0 9 1 1 ق·م·) وأوقف تقدمهم باتجاه مصر ما جعلهم يستقرون في المنطقة التي استولوا عليها في جنوب أرض كنعان·
عرف المصريون هذه المجموعة من أقوام البحر باسم بلشت أو بلست Pelest أو بلاستو، وقد ظهر هذا الاسم لأول مرة عندما سجل رعمسيس الثالث أخبار انتصاراته على أقوام البحر على جدران معبده الجنازي في مدينة هابو بمصر العليا والتي أورد فيها أسماء هذه الأقوام التي غزت مصر وتمكن من التغلب عليها، وكان منها البلاستو الذين تصفهم هذه الوثيقة بأنهم لم يكن هناك بلد قادر على الصمود أمام أسلحتهم ومع هذا فقد تغلب هو عليهم(17)·
وليـــس يعرف علــى وجــه اليقــين الأصــل الــذي اشتــق منه اسم البلشت أو البلاستــو· ففي إحدى النظريات أن الاسم قد يكون مرتبطا باسم إلهة وجد اسمها على نقش حجري في منطقة الأناضول الغربية كانت تدعى ميتر بلاستيني (meter plastene·(18) بينما تذهب نظرية أخرى إلى أن الاسم قد يكون مشتقا من كلمة Pelasgians التي تدل على شعب كان يسكن في الأرياف المحيطة بأثينا اليونانية قبل أن تتعرض اليونان للغزوات التي أشرنا إليها(19)·
ومهما يكن الأمر، فقد قدر لهؤلاء البلاستو أن يعطوا أرض كنعان الجنوبية اسما جديدا لها مشتقا من اسمهم فأصبحت تعرف منذ أن حلوا بها ببلستيا أو فلستيا· وقد كانت المراكز المدينية الأساسية لبلستيا (انظر الخارطة رقم 1) خمسا هي غزة وعسقلان وأسدود وعقرون وجات وهي التي كانت تؤلف ما يعرف بالاتحاد الفلسطيني· وتكشف التنقيبات الأثرية عن هذه المدن أنها كانت من قبل مدنا كنعانية وقد استوطنها البلاستو عندما حلوا بأرض كنعان· وتقع غزة وعسقلان وأسدود على الساحل، أما عقرون فقد كشفت التنقيبات الحديثة أنها كانت تقوم على موقع خربة المقنة الحالي على بعد نحو من خمسة وثلاثين كيلومترا من لقدس باتجاه الجنوب الغربي(20)· أما جات فلم يكتشف موقعها الحالي إلا حديثا فقد كان يظن أنها هي عراق المنشية الحالية التي تقع على بعد 94 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة· غير أن التنقيبات التي أجراها معهد الآثار في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، خاصة في موسم العام 0 0 0 2، في تل الصافي إلى الشمال الغربي من مدينة الخليل رجحت بقوة أن يكون هذا التلهو الموقع القديم لمدينة جات البلستية(21)· غيرأنه إلى جانب هذه المدن الخمس الكنعانية الأصل بنى الفلستيون مدنا أخرى منها جمنة أو جمنايل Jamneh, Jamniel التي تقوم مكانها الآن قرية يبنا على بعد 51 كم إلى الشمال من أسدود، كما بنوا اللد وصقلاع التي يرجح أنها تقوم على البقعة التي تعرف اليوم باسم تلالخويلفة على بعد 25كم إلى الشمال من بئر السبع(22)· كذلـــك أنشــأوا مدينــة علــى الضفــة الشمالية لنهر العوجا (الذي يصب في البحــر الأبيض المتوسط شمال مدينة يافا) عند الموقع المعروف باسم تل القصيلــة Tell Qasile·(23) ومن هذه المواقع أخذ الفلستيون في التوسع الجغرافي في اتجاه الشمال والشرق وفي نحو العام 0 0 0 1 ق·م· كانوا قد استوطنوا الساحل إلى ما وراء جبل الكرمل، كذلك سهل مرج ابن عامر والمرتفعات الشرقية، ووصلوا إلى بيسان في غور الأردن الشمالي،وإلى قرب أريحا واقتربوا من أورشليم (القدس)(24)·
استقر إذن اسم بلستيا، أو أي من مشتقاته، منذ ذاك ليطلق شموليا على المنطقة الممتدة من شمال حيفا الحالية إلى نقطة ما جنوب غزة بامتدادات داخلية نحو الشرق تفاوتت في العمق لكنها اقتربت إجمالا من حوض نهر الأردن الغربي·
وتدل الوثائق المشرقية القديمة على أن هذا الاسم استمر علما على المنطقة على مدى زاد عن سبعة قرون مضت منذ أن اتخذها البلاستو وطنا· ففي نص تاريخي مرقوم خلفه الملك الآشوري حدد نيراري الثالث بن شلمنصر (حكم بين 0 1 8 و 3 8 7 ق·م·) عن حملة عسكرية قام بها حوالي العام 6 9 7 ق·م· وعبر فيها الفرات ووصلفيها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، نجد هذا الاسم، ضمن أسماء المناطق التي غزاها هذا الملك الآشوري، في صيغة بلاستو Pa-la-as-tu·(25) ونجد هذا الاسم، مع بعض تحريف، يتكرر أيضا في عهد الملك الأشوري سرجون الثاني (حكم من 1 2 7 إلى 5 0 7 ق·م)· فإثر حملته العسكرية الواسعة التي مد فيها حدودالإمبراطورية الآشوريـــة حتى حدود مصر جعل بلستيا مقاطعة تابعة لسلطته تحمل اسم بلاشتو Palashtu·(26)