كتاب " فلسطين والفلسطينيون " ، تأليف د. عصام سخنيني ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2003 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب فلسطين والفلسطينيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فلسطين والفلسطينيون
ونجد في الوثائق المشرقية القديمة ذكرا لهذه الدولة، أو لبعض ملوكها، شمل كلمات أُوّلت على أنها إسرائيل· من ذلك نص وجد منقوشا على حجر تذكاري أقامه ميشع ملك مؤاب (إلى الشرق من نهر الأردن) تخليدا لانتصاره على مملكة السامرة، والنص مكتوب بالقلم الآرامي ـ الفينيقي وباللهجة المؤابية القريبة جدا من الكنعانية الفلسطينية· وقد ورد في النص(59) أن عمري أذل مؤاب أياما كثيرة كذلك فعل ابنه (آخاب) إلى أن تمكن ميشع ملك مؤاب من الانتصار عليه وطرده من بلاده· ويصف النص عمري بأنه ملك يسرال كما يسمي قومه يسرال كذلك نجد قريبا من هذا التعبير ما ورد في نص الملك الآشوري شلمنصر الثالث (8 5 8 -4 2 8 ق·م·)، المعروف باسم نص المسلة السوداء، الذي يصف فيه حملته على سوريا وتغلبه على حلف شكله ملوكها وأمراؤها ضده في المعركة المعروفة باسم معركة قرقرة على نهر العاصي إلى الشمال من مدينة حماة سنة 4 5 8 ق·م·، وكان من جملة هؤلاء الزعماء الذين تغلب عليهم الملك الآشوري أخاب سير- إيلا A-ha-abu mit Sir-'i-la-a-a(60)، وهو ابن عمري مؤسس الدولة ووريثه في الحكم· وهذا الاقتران ما بين مملكة السامرة أو بيت عمري، وبين الكلمة المشابهة للفظة إسرائيل هو الذي سوغ القول بوجود إسرائيل تاريخية كانت موجودة على مدى نحو من قرن ونصف القرن في منطقة الهضاب المركزية في فلسطين·
ولكن ما هي هذه الـإسرائيل التاريخية؟ وهل كانت مؤهلة فعلا ليصاغ تاريخ فلسطين القديم في ضوء اسمها؟ وهل كان هذا الاسم حقيقة علما على الأرض الفلسطينية لكي يستمر في الوجود إلى الزمن الحالي؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة تحسن الإشارة إلى شيء من تاريخ أورشليم ويهوذا لارتباطهما ـ في التراث التوراتي ـ بإسرائيل، فنعالج بعدئذ الشأنين معا: إسرائيل ويهوذا·
خلال الحقبة الزمنية الممتدة على مدى يزيد قليلا عن قرن ونصف القرن (ما بين قيام مملكة عُمري في العام 8 7 8 ق·م· وانقراض المملكة في العام 1 2 7 ق·م·) لا يظهر أثر لأورشليم (القدس) كمدينة ذات أهمية سياسية، ويغيب ذكرها عن الوثائق التاريخية للمنطقة ما يؤكد ما ذهبنا إليه قبل من أنها كانت في افضل الأحوال كيانا أشبه بالمشيخة التي ربما امتد نفوذها إلى منطقة الجوار المحيطة بها، وقد سمت التوراة هذا الكيان مملكة يهوذا· وليس لدينا في الحقيقة أي مصدر خارجي يعيننا على التعرف على شأن هذه المملكة
غير أن الحكايات التي توردها التوراة عنها في هذه الحقبة التاريخية تفصح عن أن من صاغوها وأدخلوها في صلب التوراة استقلوا شأن هذه المملكة فصوروها وقد استضعفها الجيران الأقوى أكان ذلك من داخل فلسطين نفسها أم من خارجها· فنقرأ أنه في زمن الملك يهورام بن يهوشافاط ( المفترض أنه حكم 9 4 8 -2 4 8 ق·م·(61)) أهاج الرب روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين فصعدوا إلى يهوذا وسبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضا(62)· وفي مناسبة ثانية نقرأ خبرا عن أحد ملوك هذه الفترة وهو يوآش الذي في عهده صعد عليه جيش آرام آرام دمشق إلى يهوذا وأورشليم وأهلكوا كل رؤساء الشعب من الشعب، وجميعُ غنيمتهم أرسلوها إلى ملك دمشق(63)· كذلك نقرأ أن يهوذا، أو أورشليم، تعرضت في زمن الملك آحاز ( من المفترض أنه حكم 5 3 7 -5 1 7 ق·م·) لغزواتمتتالية ومن جهات عدة: من آرام دمشق الذين سبوا منه من آحاز سبيا عظيما وأتوا به إلى دمشق(64)، ومن مملكة إسرائيل (السامرة)، إذ سبى بنو إسرائيل من إخوتهم مئتي ألف ! من النساء والبنين والبنات ونهبوا أيضا منهم غنيمة وافرة وأتوا بالغنيمة إلى السامرة(65)، ومن الأدوميين الذين أتوا أيضا وضربوا يهوذا وسبوا سبيا(66)، ومن افلستيين الذين اقتحموا مدن السواحل وجنوبي يهوذا وأخذوا بيت شمس وأيلون وجديروت وسوكو وقراها وتمنة وقراها وحمزو وقراها وسكنوا هناك(67)·
إن هذه التقارير التوراتية عن مملكة يهوذا وهي الوحيدة التي تحكي عن هذه المملكة تصلح شاهدا ـ إن كان بها شيء من الحقيقة التاريخية ـ على قلة شأن هذه المملكة ومحدودية مساحتها الجغرافية التي لم تتعد حدود أورشليم إلا قليلا· وهذا يفسر بالتأكيد حقيقة أن المصادر غير التوراتية لتاريخ المنطقة لا يرد فيها ذكر قط ليهوذا أو أورشليم اللتين كانتا غائبتين تماما عن مسرح الأحداث في هذه الحقبة الزمنية التي حددناها ما بين قيام دولة السامرة وسقوطها· غير أن الأمر اختلف بعد ذلك· إذ هناك دلائل تاريخية تشير إلى أن عدد سكان أورشليم قد تضاعف عدة مرات في القرن السابع قبل الميلاد (أي بعد سقوط مملكة السامرة) كما أنها شهدت رخاء كبيرا لم تشهده في الحقب السابقة(68)· فقد استفادت أورشليم من الدمار الذي أصاب السامرة على يد سرجون الثاني (1 2 7 ق·م·) وبقية مناطق فلسطين دون أن يمسها هذا الدمار فكانت فرصة لأن تنمو على حساب المدن الأخرى ولتوسع حدودها إلى الجنوب لتصل إلى حبرون (الخليل) وبئر السبع، كما ضمت إليها مدن المناطق التي تقع إلى الغرب منها والتي كانت تنافسها في الماضي القريب على تسويق منتجات قرى المرتفعات، وكانت هذه المدن، مثل جرار ولخيش وبيت شمش (انظر الخارطة رقم 1)، قدتعرضت للخراب في أثناء الغزو الآشوري ولحقها دمار كبير(69)·
وقد نتج عن هذه الأوضاع أن أورشليم أصبحت عاصمة لمملكة عرفت بيهوذا خضعت منذ بداية نشأتها للتبعية الآشورية· ففي نص للملك الآشوري سنحاريب بن سرجون الثاني (5 0 7 -1 8 6 ق·م·) عن حملة له على بلاد الشام يعدد المدن والمناطق التي تغلب عليها في هذه الحملة ويذكر تفصيلات مهمة عن إخضاعه يهوذا وفرضه الجزية على ملكها دون أن يقتحم أورشليم نفسها التي أبقاها وحدها تحت حكم ملكها بعد أن جردها من كل المدن التي كانت تابعة لها· نقرأ في النص:
أما حزقيا إيا-و-دا-اي Ha-za-qi-ia Ia-u-da-ai الذي أبى الخضوع لي فقد حاصرت 46 من مدنه الحصينة وقلاعه المسورة وعدد لا يحصى من القرى حولها وأخذتها، مستعملا المدكات والمنجنيقات التي قربها المشاة إلى مقدمة الهجوم فأحدثوا أنفاقا وثغرات· وقد سقت منهم أمامي 0 5 1 0 0 2 من ناسها ذكورا وإناثا، شيبة وشبانا، وخيولا وبغالا وحميرا وجمالا وماشية كبيرة وصغيرة لا حصر لها، واعتبرتها غنيمة· أما حزقيا نفسه، فقد حبسته في أورشليم مقره الملكي كعصفور في قفص· كذلك أحطته بمتاريس ترابية لكي أسبب الضيق لأولئك الذين يغادرون بوابات مدينته· أما مدنه التي نهبتها فقد أعطيتها لـ ميتيني ملك أشدود وبادي ملك عقرون وسليبيل ملك غزة· وهكذا أنقصت بذلك مساحة أراضيه، لكني مع هذا رفعت الإتاوة التي تؤدى لي، أنا سيده، بما يفوق الإتاوة السابقة، ولتسلم سنويا· لقد غمر الخوف حزقيا من رهبة جلالتي، أما القوات التي أتى بها إلى أورشليم لتقويتها فقد تخلت عنه· وقد أرسل إلي في نينوى مدينتي الملكية ثلاثين تالنت وزنة من الذهب و0 0 8 تالنت من الفضة، وأحجارا كريمة، وكميات من الأثمد وقطع الصخر الأحمر ومقاعد وكراسي مزينة بالعاج وجلود فيلة وخشب أبانوس وصناديق خشبية وكل أنواع النفائس· كما أرسل إلي بناته ومحظياته وموسيقييه من بنات وشبان(70)·
وتتأكد تبعية يهوذا لآشور في نص آخر للملك أسرحدون بن سنحاريب (0 8 6 -9 6 6 ق·م·) عــن حملة له إلى بلاد الشام نقل خلالها ملوك المدن الذين كانوا تحت سلطته إلى نينوى عاصمة ملكه وأجبرهم هناك على أن يبنوا له قصرا جديـــدا في عمل إذلال لهم· وكان من هؤلاء الملوك منسّى Me-na-si-i ملك يهوذا (Ia-u-di 68 2 -6 4 2 ق·م·(71))· وتتقاطع الرواية التوراتية أيضا مع هذا النص لجهة إرسال منسى إلى عاصمة ملك أسرحدون فتقول: ولكن منسى أضل يهوذا وسكان أورشليم ليعملوا أشر من الأمم الذين طردهم الرب من بني إسرائيل· وكلم الرب منسى وشعبه فلم يصغوا· فجلب الرب عليهم رؤساء الجند الذي لملك آشور فأخذوا منسى بخزامة وقيدوه بسلاسل نحاس وذهبوا به إلى بابل(72)·
وقد خلف أمون أباه منسّى في حكم أورشليم الذي استمر في سياسة أبيه بعدم المغامرة في تحدي السلطة الآشورية الطاغية(73)· وقد قتل أمون بعد سنتين من جلوسه على عرش أورشليم ليخلفه يوشيا في الحكم طفلا أولا تحت رعاية عمه، ثم لينفرد في الحكم في سنة 0 3 6 ق·م إلى 8 0 6 ق·م·
وفي هذه الأثناء كانت الخريطة السياسية للمشرق القديم قد بدأت تتغير بسرعة· فقد دخلت الإمبراطورية الآشورية دور النزع الأخير بعد وفاة آخر ملوكها العظام آشور بانيبال (9 6 6 -6 2 6 ق·م·)، ففقدت مصر التي كان أسرحدون قد ضمها إلى الامبراطوية الآشورية، وظهرت قوة الميديين (في الشمال الغربي من إيران الحالية) وحلفائهم الكلدانيين في بابل، وتمكن الطرفان من القضاء على الامبراطورية الاشورية فدُمرت مدينة آشور سنة 4 1 6 ق·م· ونٌهبت نينوى عام 2 1 6 ق·م· لتقوم على أنقاض هذه الامبراطورية ما يعرف بالدولة البابلية الجديدة· وفي ظل هذا الصراع وعندما كانت الإمبراطورية الآشورية تتهاوى وتفقد سلطتها في بلاد الشام تمكن يوشيا من أن يكسب نوعا من الاستقلال لمملكته كما بسط سلطته على مناطق خارج مدينة أورشليم خاصة في شمال فلسطين مستغلا بذلك الفراغ الذي خلفه تهاوي الإمبراطورية الآشورية· وقد مكنه هذا الوضع الجديد من أن يدخل نفسه في الصراع الذي نشب في المنطقة بين الدولة البابلية وفرعون مصر (نيخو الثاني) الذي زحف من بلاده إلى الشمال في محاولة لوراثة تركة الإمبراطورية الآشورية· وقد تصدى يوشيا لنيخو عند مجدو حيث تمكن الجيش المصري من هزيمته وإصابته بجراح نقل بعدها إلى أورشليم حيث فارق الحياة· وعلى الرغم من هزيمة نيخو أمام البابليين (في كركميش على الفرات عام 5 0 6 ق·م·) فقد فرض سلطته على أورشليم قبل أن يطارده البابليون إلى حدود مصر· مرت بعد ذلك فترة مضطربة كانت سلطة البابليين في أورشليم تعتورها بعض المشكلات عندما كان ملوكها ـ الذين كان البابليون يعينونهم ـ يسعون إلى إقامة تحالف مع مصر ضد النفوذ البابلي· وقد انتهت هذه المرحلة عندما حسم نبوخذ نصر، ثاني ملوك الدولة البابلية الجديدة، الأمر فاجتاحت جيوشه أورشليم ودمرتها نهايا وكان ذلك سنة 7 8 5 ق·م· وسبى أهلها إلى بابل لتكون هي خاتمة مملكة يهوذا·
إن هذا العرض الموجز لتاريخ المملكتين: السامرة ويهوذا يقودنا إلى استخلاص عدد من الحقائق المهمة· فعلى الرغم من ورود كلمة يسرال في نص ميشع (المشار إليه أعلاه)، وكلمة سير-إيلا في نص شلمنصر الثالث (المشار إليه أعلاه) واصفا به ملك السامرة أخاب، إلا أن الغموض يحيط بهاتين الكلمتين فلا يمكن أن نتعرف من خلال النصين ما إذا كانت لهما دلالة مكانية (جغرافية) أو دينية أو إثنية· ولكن ما هو مؤكد أنه باستثناء هذين النصين لا نجد في مصادرنا التاريخية (غير التوراتية) إشارة أخرى لوصف مملكة السامرة بأنها إسرائيل
فقـــد عرفهــا الآشوريون عامة إما بأسماء السامرة أو أرض عمري أو بيت عمري· ففي نص للملك الآشوري حدد نيراري الثالث عن حملة قام بها على سوريا (حوالي سنة 6 9 7 ق·م·) نقرأ أسماء المناطق التي أخضعها لحكمه ومنها أرض عمري mat Hu-um-ri·
كذلك حوت سجلات الملك الأشوري تغلات فلاصر الثالث (5 4 7 -7 2 7 ق·م·) نصا عن حملة قادها إلى مناطق غرب الفرات ورد فيه أسماء المناطق التي أخضعها لسيطرته، ومنها أرض عمري Bit Hu-um-ri-a· وفي نص آخر نقرأ قول الملك الآشوري إن أرض عمري··· سقت جميع سكانها وممتلكاتهم إلى آشور
ونجد الاسم أرض عمري يتكرر أيضا في نصوص سرجون الثاني (حكم بين 1 2 7 و5 0 7 ق·م)، لكنه يستخدم أيضا إلى جانبه اسم السامرة بلفظ Sa-mir-i-na·ففي نص من سجلاته عن خراب السامرة نقرأ: سرغون ملك آشور فاتح السامرة وكل أرض عمري، وفي نص آخر يقول لقد حاصرت السامرة وفتحتها(74)·
وتدل هذه الوثائق التي تعود إلى زمن وجود مملكة السامرة على أن معاصريها لم يعرفوها قط باسم مملكة إسرائيل، كما أن الأرض، أو الإقليم الجغرافي الذي أقيمت عليه هذه الدولة لم يعرف قط باسم أرض إسرائيل وهكذا فقد يجوز الافتراض، ودون أن نمتلك دليلا يؤكده ولا دليلا ينفيه، أن تكون كلمتا يسرال وسير-إيلا الواردتان في نصي ميشع وشلمنصر على التوالي تشيران إلى مجموعة سكانية عرفت بهذين الاسمين (ولأسباب نجهلها) لكن دون أن تعطي الأرض هذا الاسم·
غير أن ما هو مؤكد أن هذه الدولة التي قامت في السامرة، وعرفت بهذا الأسم أو باسم أرض عمري، والتي يجيز بعض الباحثين المحدثين إطلاق اسم إسرائيل عليها وعدها هي وحدها إسرائيل التاريخية، فإنها ليست هي التي تريد الحكايات التوراتية أن تقنعنا بأنها امتداد لمملكة إسرائيل الموحدة (التي لم توجد أصلا)· فعلى الرغم من معرفتنا بأسماء بعض ملوك دولة السامرة الذين ذكروا في وثائق المشرق القديمة (منهم عمري، وابنه آخاب، ومنحيم، وبيقحا أو فقح، وأوشي أو هوشع) فليس يعرف شيء عن بدايات تلك الدولة وكيف نشأت باستثناء الحكايات التوراتية عن ذلك التي لا يمكن عدها مصدرا تاريخيا· حتى هذه الحكايات تؤكد عند تفحصها بتدقيق أن ناسجيها أخرجوا حكام هذه الدولة، أو ملوكها، من السلسلة المقدسة التي كان سليمان أوسطها وتعود بأقدمها إلى يعقوب الذي تسمى بإسرائيل (حسب الحكاية التوراتية) وامتدت بعد إلى ملوك يهوذا في أروشليم·