كتاب " بياض الليل سواد النهار " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، من أجواء الرواية نقرأ:
قراءة كتاب بياض الليل سواد النهار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

بياض الليل سواد النهار
أثار دخول المختار حماسة ثلة من رجال آسكي موصل، التي تكاد تشبه مدينة صغيرة، أو قرية نمت أكثر مما ينبغي. تمتزج عيوبها بمحاسنها ويتداخل أحدها مع الآخر إلى درجة يكون معها من الصعب جداً التفريق بينهما. الجميع يعرفون بعضهم بعضاً، وتربطهم علاقات جيرة قوية، عدا الأعداء منهم. لكن هذه الحسنة التي طالما مكنتهم من التآزر، تكاد تكون أهم أسباب الضجر الذي ينتاب الجميع لرتابة الحياة، وإيقاعها الممل الذي لا يتغير. فيجدّون في البحث عن أي خبر جديد، مرتجل أو مشتق من حدث بسيط، أو أي مصدر للإثارة يبعد التثاؤب ويجعل العينين لامعتين من جديد، والمخ مشغولاً بالبحث والاستنتاج.
حين دخل المختار أفسح حسون له مكاناً قريباً من المنقلة، فالرجل بالتأكيد كان يشعر بالبرد. صرخ بصبي المقهى بأن يصب له القهوة. وهذه المرة لم تطل مراسيم إلقاء التحيات والسؤال عن الصحة والأحوال كثيراً. اختصر الجميع في كلماتهم، وبدت الجمل القصيرة المتواترة، هزيلة بمعنى الكلمة. الجميع يبحثون الآن عن هنيهة من الصمت ليتسنى لهم بعدها توجيه الأسئلة والاستفسارات إلى المختار. ولا مانع لديهم بإخضاع الرجل لتحقيق دقيق، ما دام سيمكنهم من نيل مرادهم، وهو إلقاء بعض الضوء على الحدث الاستثنائي الذي حصل بعيداً عن رقابتهم في اليوم الفائت، بسبب الطقس اللعين. حتى سلطان أفندي، وهو عادة لا يهتم بالأحداث التي تثير أقصى درجات الحماسة والفضول لدى الجميع، كان متحفزاً هذه المرة، وله في ذلك أسباب مختلفة عن أسباب بقية رجال البلدة.
لم يكد المختار يلتقط أنفاسه حتى بدأ بالكلام عما حصل يوم أمس، ولم يتح الوقت للبقية ليهجموا عليه باستفساراتهم، لكن هذا بالطبع سيحصل بعد أن ينتهي الرجل من الكلام، الذي استهله بقوله:
– استغربت صباح الأمس حين دخل الحوذي إلى منزلي والثلج يغطي كل ملابسه. قلت لنفسي: (ما الذي جرى ليخاطر هذا الرجل بالسفر بمثل هكذا أنواء مميتة، ويتحمل عناء القدوم إلى داري؟ هل مات عمّي القاضي وأوصى وهو على فراش الموت بأن لا يدفن حتى أحضر دفنه؟). وجلست في تلك اللحظات القصار التي سبقت كلمات الحوذي، وأنا أضرب أخماساً لأسداس، حتى ذكر الحوذي أسباب قدومه، وتحدث عن المسافرة التي تنتظر داخل العربة، حينئذ أصررت على الذهاب معه إلى هناك. لم أجلس داخل العربة من باب التأدب في البداية، بل جثمت هناك بقرب الحوذي الذي كان يجد صعوبة كبيرة في السيطرة على حصانه، ولم أتمكن من رؤيتها، لغاية وصولنا مزرعة المرحومة.
احتسى المختار قهوته الساخنة، قبل أن يكمل:
– بالرغم من أني لم أعاصر زبيدة خاتون أيام شبابها، لكني متأكد أن هذه المرأة قريبتها، لأنها تشبهها كل الشبه. لكن والحق يقال إنها تبدو مسكينة منكسرة ضائعة. لا تملك جبروت قريبتها الراحلة، ولا التسلط الذي كان ينطلق من عيني المرحومة. فهمت منها أنها ابنة أخيها، وأن اسمها سارة... سارة خاتون.
بعد أن حبس الجميع أنفاسهم، طوال الفترة التي استغرقها المختار في الكلام، أتى دور الأسئلة التي تخمرت في أذهانهم النهمة لتنطلق، وبعض الحضور طرح على المختار ما لم يكن ليخطر له على بال، مثل: (هل فهمت منها كيف وصلها نبأ وفاة عمّتها؟). (هل أتت لتقيم، أم أنها ستصفي إرثها وترحل بعيداً عن هذه البلدة الصغيرة؟). والمختار الذي كان مزهواً بهالة الاهتمام التي وجد نفسه محاطاً بها، أجاب عن بعض الأسئلة لأنه يملك إجابة لها، وعن أخرى معتمداً على تحليله، أو حتى على سعة خياله. وحين انتهت الضجة التي أحدثها دخوله، وهدأت الأذهان التي كان يحفزها الفضول، كان لدى المختار شيء ما ليضيفه، حين سأله سلطان أفندي إن كان قد لاحظ شيئاً غريباً عليها، فكر بعمق قبل أن يقول:
– هي لم تشاهد عمّتها من قبل، يعني أن الحزن الذي يبدو عليها بوضوح، ليس سببه الوفاة التي حصلت قبل يومين. والمرأة تبدو حزينة للغاية، حزينة جداً وضائعة.
لم يضف المختار شيئاً آخر، لأنه لمح ولده الصغير، وهو يسير متعجلاً برفقة مسعود. رفع رأسه إلى الأعلى، ومال به يميناً ليراقب إلى أين سيتوجه الطفلان، لكنهما دخلا زقاقاً يؤدي إلى منزل مسعود لحسن الحظ. كان المختار قد أوصى أبناءه بأن لا يقتربوا من النهر الآن، خوفاً عليهم، من تكسر قشرته الجليدية، وسقوطهم في المياه الباردة. لكنه لم يكن واثقاً أن الأبناء سيلتزمون بتطبيق وصاياه، فلا أحد يعلم على وجه الدقة، كيف يفكر الصغار، حين يدفعهم حب استكشافهم للعالم الذي يبدو جديداً في نظرهم.
كان الطفلان مستغرقين في الحديث، حين مرا مقابل المقهى، بحيث لم ينتبه ياسين أن أباه يجلس فيه، محاطاً بثلة من الرجال. وحديث الطفلين لا علاقة له بتاتاً، بالوافدة الجديدة إلى البلدة، لأن جل اهتمامهما انصب على الثلج وتجمد النهر. قررا أن يمضيا إلى هناك ما إن يغير مسعود ثيابه، فأسنانه كانت تصطك بعضها ببعض، كما أنه لم يعد يشعر بيديه بتاتاً. أوشك ياسين أن يؤنب مسعود لأنه خرج من دون أن يرتدي ملابس سميكة تقيه البرد، لكنه تذكر في اللحظة الأخيرة، أن صديقه فقير جداً. فكَّرَ أن يعود إلى دارهم ويطلب من أمه أن تهبه بعض الثياب الصوفية، لكنه خشي أن تستنتج الأم المكان الذي ينويان التوجه إليه فاحتفظ بفكرته لنفسه.