كتاب " بياض الليل سواد النهار " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، من أجواء الرواية نقرأ:
قراءة كتاب بياض الليل سواد النهار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

بياض الليل سواد النهار
[2]
حين نظر سلطان أفندي من نافذة غرفته التي تشرف على البلدة بأكملها، لأن منزله مشيد على رَبوة من الأرض، تبين له أن الثلج قد اختفى من كل الأماكن، وذاب متسللاً إلى باطن الأرض. ألقى نظرة على المنضدة التي وضع عليها مخطوط الكتاب الذي كان يقوم بنسخه، لا أحد ينافسه في البلدة بأكملها بأناقة خط يده، إضافة إلى الزخرفة التي كان يضيفها إلى حواشي بعض الأوراق والرقاق، في أوقات فراغه.
قلب صفحات الكتاب الذي يعمل على نسخه منذ شهر ونيف، كان قد أنهى نصف العمل، لن يعوزه الوقت لأنه ثابر على العمل يوماً بيوم، وسينجزه في المهلة المحددة. قرر أن يتفرغ لجمع القصائد من أجل الكتاب الذي ينوي تأليفه في القريب العاجل، وسيسافر إلى الموصل وربما بغداد من أجل جمع المصادر، وتحقيق المعلومات التي سيوردها عن الشعراء. فهو يريد أن يكتب شيئاً مختلفاً، لا يحتوي كلمات مثل: (حدثني فلان الفلاني، نقلاً عن أحد الثقاة). كان يريد الاستشهاد بكتب لا تراوغ ولا تنسى، ولم تعرف الخيانة يوماً ما.
نادت عليه أمه من الطابق الأرضي للدار، تحثه على النزول لتناول وجبة الإفطار. فلف جسده بعباءته السميكة المصنوعة من وبر الإبل، ونزل إلى الطابق الأسفل المزدحم بأصوات شقيقاته غير المتزوجات، وأبناء إخوته. في غرفة الجلوس الواسعة كانت أمه قد انتهت من صنع القهوة، فصبت له فنجاناً وناولته إياه، وهي تلومه لأنه تأخر في النوم، ولم يفطر مع بقية إخوته الذين ذهبوا لتفقد أحوال البستان. أجاب الأم:
– سهرت أعمل على الكتاب حتى ما بعد منتصف الليل.
– ليمنحك الله القوة يا بني، فالعمل عبادة.
صمتت الأم قليلاً، انشغلت بإخراج أرغفة خبز طازجة من قدر الخبز الموضوع بجانبها، ثم نظرت إلى النافذة وواصلت حديثها مع ابنها:
– ذاب الثلج لحسن الحظ، كنت أخاف التحرك في باحة المنزل خوفاً من انزلاقي، الله أعلم ماذا سيحل بعظام امرأة عجوز مثلي إذا ما سقطت أرضاً.
– لم يخب ظن حسون أبو فهد، قال إنه لن يتأخر في المكوث على أرضنا أكثر من يومين. عكس الشيخ عثمان الذي أصر أنه عقاب، سيستمر طويلاً! لا أدري لِمَ يتمنى هذا الرجل الأسوأ للجميع دائماً.
– الرجل تقي ورع يا ولدي، لا تتكلم عنه بالسوء ولا تناصبه العداء، فهو يغلظ القول ليحث الجميع على التمسك بما أمرنا الله سبحانه وتعالى به.
صمت الرجل ولم يكمل ما كان ينوي قوله، لأن النقاش مع أمه لن يكون مجدياً بأية حال. لم يشأ الخروج من المنزل أيضاً، وقرر أن يكمل نسخ مخطوطه، فانسحب إلى غرفته، وغرق في العمل فوراً.
شهد المنزل فورات من النشاط، إثر قدوم بعض الضيوف من الموصل، قطعت على سلطان أفندي خلوته. فأقيمت الاستعدادات في المطبخ وتمّت الاستعانة بالأرملة سعادة، التي شمرت عن ذراعيها فوراً وانهمكت في ذبح الدجاج ونتفه بعد تغطيسه بالماء المغلي. أحضر حاجي السقّا الماء للدار، توقف هنيهة ليلقي السلام على الضيوف، فوجد الفرصة سانحة لإراحة جسده والتماس بعض الدفء، وبينما كان يحتسي فنجان قهوة الضيافة أعرب حاجي عن فرحه لذوبان الثلج فقال:
– كنت أقدح زناد فكري مفكراً في حل، هل أترك المدينة عطشى؟ هل أترك أهلها يشربون ماء الآبار المج المر؟ هذا لا يرضي وجداني، وأنا أسقيهم منذ أربعين عاماً. فكرت بأن أكسر الثلج وأن أذيبه على النار، وحين خرجت على هذه النية صباحاً، وجدت أن قشرة النهر قد ذابت من كذا مكان، فغرفت ونقلت. لكن الماء بارد وليتلطف بنا الرحمن، فهذا البرد سيفسد عظامنا. وكيف هي الموصل؟
تكفل عمّ سلطان أفندي بالإجابة، وهو يعمل في السراي خزنة دار والي الموصل الحالي، الذي لم يكن قد تسلم الولاية إلا منذ بضعة أشهر. والرجل خمسيني، صارم، أمين، مخلص. وإلا ما تمكن من أن يشغل المنصب الصعب المناط إليه. قال أحمد أفندي وصوته يشي بزهوه ورضاه:
– وفد إليها الوزير عبد الله باشا الكوبرلي، في طريقه لغزو العجم، والوالي حسين الجليلي مشغول بإمداده بكل ما يحتاجه من مؤن، ومعدات، رفعت الأسعار، ودفعت التجار إلى تكديس البضائع في المخازن.
قبل أن ينتهي حاجي السقّا من شرب فنجانه، سأله سلطان أفندي بعد أن تردد بعض الشيء وفكر ملياً فيما يجب أن يقوله:
– هل أوصلت الماء إلى دار زبيدة خاتون؟