كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.
أنت هنا
قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ومثالٌ ثالثٌ وهو رأي إليوت في مبدأ «تكافؤ الفرص» إلّا أنَّ التعصّب هنا يعميه عن كل حقيقة موضوعية. فهو يسمِّي فكرة «أنَّ كثيرًا من الكفاءات الممتازة ـ بل كثيرًا من العبقريات تضيع لنقص التعليم» أسطورة! وفي مقابل ذلك يبرّر هجومه على مبدأ تكافؤ الفرص، بأنّ هذا المبدأ قد يُخرج عباقرة في الشر، كما يُخرج عباقرة في الخير. ولا أظن أن في إمكان أحدٍ أن يأتي بأسخف من هذه الحجة، لأننا لو رتبنا عليها كل ما ينبغي أن يُرَتَّب لانتهينا إلى رفض الحياة نفسها لما فيها من شر. ولابد لنا أن نصل آخر الأمر إلى نتيجة هامة، وهي أنه مهما يكن من حرص إليوت على الموضوعية، بل مهما يكن من طوبويته، فإن طابع التشاؤم هو الطابع الغالب على «ملاحظاته». والشعور العام الذي يخرج به القارئ عن المؤلِّف، هو أنه رجل يعيش في غير عالمه. وطوباه ليست في المستقبل بل في الماضي، في إنجلترا القرن الثامن عشر. وموقفه من التطور موقف جزع دائم (بالرغم من أنه يتحدث عن رقيِّ الثقافة، ولا يبدو ساخطًا حتى على الطابع الميكانيكي للحضارة الغربية الحديثة، وخصوصًا حين يتعلق الأمر «بفوائد» الاستعمار) فهو يقول ـ بعد ملاحظات موضوعية قيمة عن اختفاء بعض القيم في الحضارات المتطوِّرة: «والحق أنَّ الشيء الوحيد الذي نثق من الزمن بإحداثه أبدًا هو الخسارة؛ أما الكسب أو التعويض فإنه يوشك أن يكون متصوَّرًا دائمًا، إلا أنه غير متيَقَّن أبدًا» ويقرر في موضع آخر أن «كل تطوير إيجابي فائق للثقافة هو دائمًا معجزة عندما يحدث».
وإليوت يعبِّر بهذه الأفكار عن إيمانه الخاص، وهو مزيج متناقض من الإيمان بقدرة الأرستقراطية والإيمان بالخلاص المسيحي، وهذا الإيمان الخاص هو الذي يجعله يزجُّ في جدله بمسلمات لا يلزم أن يسلِّمها له القارئ، بل يحسن به أن يقف منها دائمًا موقف الشك. والحق أن الكاتب يساعده على ذلك. ففضلًا عن أسلوبه المليء بالاستدراك والاحتراس والجمل المعترضة، بحيث يوحي إلى القارئ الفكرة وضدها في وقت واحد، ويعديه بموقف «المفكر الذي يفكر في تفكيره»، وهو الموقف المعقد الذي يتخذه في هذه المقالة، والذي يجعل لها صعوبة خاصة، وجاذبية خاصة أيضًا، ففضلًا عن ذلك نراه يصرح بأنه غير مبرَّأ من الميل لأفكاره السابقة. فهو يقول: «.... لا يوجد إنسان يمكنه أن يتخلص تخلصًا تامًا من وجهة النظر الدينية، لأن المرء ـ آخر الأمر ـ إمِّا مؤمن أو غير مؤمن. وإذن لا يمكن لأحد أن يكون مبرَّأ من الميل تمامًا كما ينبغي للإجتماعي المثالي أن يكون. وبناءً على ذلك يجب على القارئ أن يحسب حسابًا لأفكار المؤلف الدينية، وليس هذا فحسب، بل يجب عليه أيضًا أن يختبر عقله وأفكاره هو نفسه (أي القارئ)، وهذا أمر أشد صعوبة، فلعله لم يمتحن عقله قط امتحانًا دقيقًا. وهكذا يجب على الكاتب والقارئ كليهما أن يحذرا افتراض أنهما مبرآن من الميل تمامًا».
ويستطيع القارئ أن يتبين ثلاث أفكار رئيسية عن الثقافة تنتظم هذا الكتاب كله، ولها قيمتها الموضوعية الكبيرة وإن تأثر الكاتب في بعض تطبيقاتها بميوله الخاصة.
أولى هذه الأفكار هي: فكرة الوحدة والتعدد في الأنماط الثقافية. فهناك ثقافة إنسانية تنتظم البشر جميعًا، وهناك في الوقت نفسه ثقافة محلية تميز أهل قرية ما عن أهل القرية المجاورة لهم. وبين هذه النوعية الصغيرة وتلك الوحدة الشاملة هناك درجات متفاوتة من الوحدة، منها ما يجمع الإقليم أو القطر، ومنها ما يجمع الفئات المتماثلة في الأقطار المختلفة. ووجود الأنماط العامة وازدهارها ضروري لوجود الأنماط النوعية وازدهارها، كما أن العكس صحيح أيضًا، لأنَّ الاتصال بين الأنماط الثقافية المختلفة يثري كل واحد منها، في حين أنَّ التراث الثقافي المشترك يزداد غنى بمساهمة الأنماط الثقافية المتنوعة فيه. وإليوت يتعمق في هذه الفكرة ويحرص على بيان أنَّ الوحدة الثقافية يجب أن تكون وحدة عضوية لا مجرد حاصل جمع الثقافات النوعية الداخلة في تكوينها.
والفكرة الثانية هي: فكرة الارتباط بين الثقافة والدين. وهي فكرة لا أحسب أن أحدًا من الباحثين ينكرها، أو يستطيع إنكارها. إلّا أنَّ إليوت يؤكد هذا الارتباط تأكيدًا يكاد يمحو الفرق بين الثقافة والدين، أو يجعلهما مترادفَيْن في كثير من الأحيان. وكلام إليوت في هذا الموضوع ـ على عظم خطره ـ إشارات خالية من التحديد. ويقرر هو نفسه: «إنَّ ما حاولت التلويح به من نظرة إلى الثقافة والدين لجد عسير بحيث لا أحسبني أدركه أنا نفسي إلّا لمحًا، ولا أحسبني واقفًا على جميع دلالاته. وهي أيضًا نظرة تنطوي على خطر الوقوع في الخطأ في كل لحظةٍ، لعدم التنبه إلى تغيُّر في المعنى الذي يكون لكلتا الكلمتين حين تقتربان على هذا النحو، بصيرورتهما إلى معنى قد يكون لإحداهما بمفردها».
وأهمُّ من الخطر الذي يشير إليه إليوت، خطرُ الاعتراف بالإبهام وإعطائه نفس المكانة التي نعطيها للمسلَّمات أو القضايا الثابتة، بحيث نأخذ في البناء عليه والاستنتاج منه، فكأنما نبني على أرض لا نعرف مدى صلابتها، أو أين الأجزاء الصلبة فيها إن كانت ثمة مثل هذه الأجزاء.
والفكرة الثالثة هي: أنَّ في الثقافة جانبًا كبيرًا غير واعٍ، وتتصل بهذه الفكرة فكرة توارث الثقافة. ولا شك أننا إذا وسَّعنا مفهوم الثقافة ـ كما يريد إليوت ـ بحيث تدل على «طريقة الحياة»، فيجب أن نسلِّم بهاتين الفكرتين. ولابد لنا أن نوسِّع مفهوم الثقافة على هذا النحو إذا شئنا أن نفهم النشاط البشري على أنَّه كلٌّ مترابط الأجزاء، وهذا ما يفعله الأنثروبولوجيون. وحين نسلِّم بذلك الجانب غير الواعي في الثقافة نستطيع أن نفهم قيمة ارتباط أجزائها الواعية ـ من علمٍ وفنٍ وأدب ـ بالتراث غير الواعي المغمور في باطن الفرد وباطن الشعب، كما نستطيع أن ندرك العلاقة بين الجانبين، وما يكون بينهما أحيانًا من تعارض ـ كتعارض الوعي واللاوعي في الفرد ـ وما يكون بينهما أحيانًا أخرى من انسجام، بحيث يستمد الأول من الثاني، ويجد الثاني تحقيقه واكتماله في الأول.
وبعد فهذه دعوة لك ـ أيها القارئ العزيز ـ أن تقرأ هذا الكتاب قراءة متأنّية، وتسبر غور أفكاره، لتخلّصها من تطبيقاتها الجزئية، التي يشوبها الغرض في كثير من الأحيان، وتحصل على جوهرها الصادق. وأحسب أن هذا الكتاب قادرٌ على أن يثير في ذهنك أضعاف ما يحتويه.. وأنت الرابح إذن، ولو وجدت نفسك مع كاتبه على طرفي نقيض.
شكري محمد عياد