كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.
أنت هنا
قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمة
«أعتقد أن دراساتنا يجب أن تكون خالية من الغرض إلى أبعد حد. إنها تحتاج إلى أن تجرى بتجرّد مثل الرياضة»
أكتون(1)
ليس غرضي من كتابة الفصول التالية أن أقدم مخططًا لفلسفة اجتماعية أو سياسية، كما قد يتبادر إلى الذهن من نظرة سريعة إلى الفهرست، ولا أريد لهذا الكتاب أن يكون مجرد ذريعة لعرض ملاحظاتي حول موضوعات شتى. إنما قصدت أن أساعد في تعريف كلمة، وهذه الكلمة هي «الثقافة».
وكما أن المبدأ إنما يحتاج إلى التحديد بعد ظهور هرطقة ما، فكذلك الكلمة لا تحتاج إلى هذا النوع من العناية إلّا حين يُساء استعمالها. وقد لاحظت بقلق متزايد تاريخ هذه الكلمة: «الثقافة»، خلال السنوات الست أو السبع الماضية. ولعلنا نجد من الأمور الطبيعية ذات الدلالة أن يكون لهذه الكلمة مكان هام في لغة الصحافة أثناء عهد من التخريب الذي لا نظير له. ولا تنس أن ثمة كلمة أخرى تضاعف دورها، وهذه الكلمة الثانية هي «المدنيّة». ولم أحاول في هذه المقالة أن أضع الحدود بين مَعنَيَي هاتين الكلمتين، فقد انتهيت إلى نتيجة، وهي أن أي محاولة كهذه لا يمكن أن تنتج إلا تمييزًا صناعيًا خاصًا بهذا الكتاب، يجد القارئ صعوبة في تذكره، ويشعر بالراحة في التخلي عنه عندما يطوي الكتاب. والحق أننا قد نستعمل إحدى الكلمتين استعمالًا غير قليل في سياق تغني فيه الكلمة الأخرى سواء بسواء، كما أن هناك مواطن أخرى تليق بها إحدى الكلمتين دون الأخرى، ولا أظن أن هذا يستوجب ارتباكًا، وفي مناقشتنا هذه قدر كاف من العقبات التي لا يمكن تجنبها، يغنينا عن إضافة عقبات غير ضرورية.
في أغسطس سنة 1945 نشر نص مشروع قانون أساسي لمنظمة سُميِّت «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة»(2) وقد حددت الفقرة الأولى غرض هذه المنظمة كما يلي:
1 ـ أن تنمِّي وترعى الفهم المتبادل والتقدير المتبادل لحياة شعوب العالم وثقافتها، وفنونها، ودراساتها الإنسانية وعلومها، باعتبار ذلك أساسًا للتنظيم الدولي الفعال، والسلام العالمي.
2 ـ أن تتعاون في إمداد جميع الشعوب بحصيلة العالم من المعرفة والثقافة من أجل خدمة الحاجات البشرية المشتركة؛ وفي ضمان إسهامها في الاستقرار الاقتصادي، والأمن السياسي، ورغد العيش بوجه عام، لشعوب العالم.
وليس يعنيني الآن أن استخلص معنى من هذه الجمل، إنما أستشهد بها لأوجّه الاهتمام إلى كلمة «الثقافة»، ولأنبِّه إلى أنه قبل العمل على تنفيذ هذه القرارات ينبغي أن نحاول معرفة ما تدل عليه هذه الكلمة الواحدة. وليس هذا إلّا مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة يمكن إيرادها لاستعمالِ كلمةٍ لا يشغَلُ أحدٌ نفسه ببحثها. إن هذه الكلمة تستخدم عادة بأحد طريقين: إما بنوع من المجاز، عندما يعني القائل عنصرًا من عناصر الثقافة أو مظهرًا من مظاهرها، «كالفن» مثلًا؛ وإما على أنها نوع من مثيرات الانفعال ـ أو مخدرِّاته ـ كما في الفقرة السابقة(3).
وقد حاولت في الفصل الأول من كتابي أن أميِّز بين الاستعمالات الثلاثة الرئيسية للكلمة وأبيّنَ ما بينها من صلات، وأوضِّح أننا حين نستعمل الاصطلاح على أحد هذه الطرق، فيجب أن نفعل ذلك ونحن على وعي بالطريقين الآخرين. وحاولت بعد ذلك أن أكشف عن الصلة الجوهرية بين الثقافة والدين، وأوضح ما في كلمة «العلاقة» من نقص حين تستعمل للدلالة على هذه العلاقة بالذات. وأول دعوى هامة أقيمها، هي أنه لم تظهر ثقافة ولا نمت إلّا بجانب دين: ومن هنا تبدو الثقافة نتيجة من نتائج الدين، أو الدين نتيجة من نتائج الثقافة، طبقًا لوجهة نظر الناظر.
وفي الفصول التالية، أناقش أمورًا ثلاثة أراها شروطًا ضرورية للثقافة. وأولها: البناء العضوي (ولا أعني بذلك الوصف كونه منظمًا فحسب، بل كونه ناميًا أيضًا) ليساعد على الانتقال الوراثي للثقافة داخل ثقافة معينة، وهذا يتطلب استمرار الطبقات الاجتماعية. والشرط الثاني هو: ضرورة أن تكون الثقافة قابلة للتحليل، من الوجهة الجغرافية، إلى ثقافات محلية، وذلك يثير مشكلة «الإقليمية». والشرط الثالث هو التوازن: بين الوحدة والتنوع في الدين ـ أي عمومية المبدأ مع خصوصية الطقوس والعبادات. ويجب ألّا يغرب عن ذهن القارئ أني لا أدعي استيفاء جميع الشروط الضرورية لوجود ثقافة مزدهرة، وإنما أبحث شروطًا ثلاثة استرعت انتباهي. كذلك يجب أن يتذكر أن ما أقدمه ليس مجموعة من التوجيهات لاصطناع ثقافة، فأنني لا أقول إننا إذا شرعنا في تحقيق هذه الشروط وأي شروط أخرى معها كان لنا أن نتوقع مطمئنين تحسنًا في مدنيتنا، بل وكل ما أقوله هو أن غاية ما تؤدي إليه ملاحظاتي أنك لن تجد، على الأرجح، مدنية راقية حيث تنعدم هذه الشروط.
وفي الفصلين الأخيرين من الكتاب محاولة لتخليص الثقافة من السياسة والتربية.
وأحسب أنَّ بعض القراء سيستخلصون من هذه المناقشة نتائج سياسية. وأقرب من ذلك احتمالًا أن عقولًا معينة ستقرأ في ما كتبته تأييدًا أو نقضًا لمعتقداتهم وميولهم السياسية الخاصة. وليس الكاتب نفسه مجردًا من معتقدات وميول سياسية، ولكن فرضها ليس من باله في هذا المقام، وإنما الذي أحاول أن أقوله هو هذا: هاكم ما أراه شروطًا جوهرية لنمو الثقافة وبقائها. فإذا كانت تتعارض مع أي إيمان حار لدى القارئ ـ إذا وجد أن من المستَنْكَر مثلًا أن تتعارض الثقافة مع المساواة، وإذا بدا له من المستفظع أن يكون لأحدٍ «امتيازات بحكم مولده» ـ فلست أسأله أن يغير إيمانه، وإنما أسأله أن يكف عن التظاهر باحترام الثقافة. إذا قال القارئ: (إن الأوضاع التي أرغب في تحقيقها هي أوضاع «خيِّرة» (أو «عادلة»(4) أو «حتمية»)، وإن كان لابد أن يؤدي هذا إلى مزيدٍ من انحدار الثقافة، فيجب أن نقبل ذلك الانحدار) ـ فليس لي عليه من سبيل، بل إنني قد أجد نفسي في بعض الظروف مضطرًا إلى تأييده. ولو غلبت مثل هذه الموجة من الأمانة لكانت نتيجتها أن تبطل إساءة استعمال كلمة «الثقافة»، وأن يبطل ظهور هذه الكلمة في غير مواطنها، وإنقاذ هذه الكلمة هو غاية أمانيَّ.