كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.
أنت هنا
قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ولا ينتج من ذلك أن الكلام عن ثقافة فرد أو فئة أو طبقة هو كلام لا معنى له. إنما نريد أن ثقافة الفرد لا يمكن أن تفصل عن ثقافة الفئة، وأن ثقافة الفئة لا يمكن أن تجرَّد من ثقافة المجتمع كله، وأنَّ فكرتنا عن «الكمال» يجب أن تراعي المعاني الثلاثة للثقافة في وقت واحد. وكذلك لا ينتج مما سبق أن الجماعات المعنية بكل من المناشط الثقافية في مجتمع ما، مهما تكن درجة ثقافته، ستكون متمايزة ومنفصلًا بعضها عن بعض، بل على العكس: لا يمكن أن يتحقق التماسك الضروري للثقافة إلّا بالتداخل والمجاراة في الاهتمامات، وبالمشاركة والتقدير المتبادل. فإن الدين لا يحتاج إلى هيئة من رجال الدين فحسب، يعرفون ما يعملون، بل إلى هيئة من العابدين يعرفون ماذا يعمل.
ومن الواضح أن مناشط الثقافة المختلفة تتشابك تشابكًا لا انفصام له في الجماعات الأقرب إلى البدائية. فالدياك(9) الذي يمضي معظم فصول العام في قطع قاربه ونحته وتلوينه على النمط المطلوب للشعائر السنوية في قطع رؤوس الأعداء، يقوم بعدة مناشط ثقافية في وقت واحد ـ تشمل الفن والدين كما تشمل الحرب البرمائية. وكلما ازدادت المدنية تعقيدًا ظهر فيها مزيد من التخصص المهني. فالمستر جون لايارد يقول عن جزر الهبريد الجديدة التي تعيش في العصر الحجري: إنَّ بعض هذه الجزر يتخصص في فنون وصناعات معينة، فتتبادل بضائعها وتعرض ما وصلت إليه من إتقان، وتنال الرضى المتبادل من أعضاء الأرخبيل. على أنه إذا كان أفراد القبيلة أو المجموعة من الجزر أو القرى ربما اتخذوا وظائف منفصلة ـ وأخصها وظيفتا الملك والطبيب الساحر ـ فإن الدين والعلم والسياسة والفن لا تتطور، مجردة، بمعزل بعضها عن بعض إلّا بعد ذلك بمراحل. وكما أنَّ وظائف الأفراد تصبح وراثية، والوظيفة الوراثية تجمد في تميز طبقي أو طائفي، والتميز الطائفي يؤدي إلى صراع ـ فكذلك الدين والسياسة والعلم والفن تصل إلى نقطة يكون عندها صراعٌ واعٍ بينها من أجل الاستقلال أو السيادة. ويكون هذا الاحتكاك في بعض المراحل وفي بعض المواقف حافلًا بالخلق، ولا حاجة بنا في هذا المقام إلى أن نبحث إلى أي حد يتسبب عن ازدياد الوعي وإلى أي حد يسببه. وقد يصبح التوتر داخل المجتمع توترا داخل عقل الفرد الأكثر وعيًا كذلك. ففي «أنتيجونا»(10) يمثل اصطدام الواجبات ـ وهو ليس مجرد اصطدام بين التقوى والطاعة المدنية، أو بين الدين والسياسة، بل بين قوانين متعارضة فيما لا يزال مركبًا دينيًا أخلاقيًا ـ يمثل هذا الاصطدام مرحلة شديدة التقدم من المدنية. لأن الصراع يجب أن يكون ذا معنى في تجربة المشاهدين قبل أن يجعله المؤلف المسرحي منطوقًا، وقبل أن يلقى من الجمهور الاستجابة التي يحتاج إليها فن المؤلف المسرحي.
ومع تقدم المجتمع نحو التعقيد والتمييز الوظيفيين يمكننا أن نتوقع ظهور مستوياتٍ ثقافية شتى: أو باختصار تظهر ثقافة الطبقة أو الفئة. ولا أظن أن ثمة محلًا للجدل في أنَّ هذه المستويات المختلفة يتحتم وجودها في أي مجتمع مستقبل، كما هو الحال في أي مجتمعٍ ماضٍ. ولا أظن أن أشد دعاة المساواة الاجتماعية تحمسًا يجادلون في هذا، وإنما يدور اختلاف الرأي حول ضرورة انتقال ثقافة الفئة بواسطة الميراث ـ أي تكاثر كل مستوى ثقافي ـ أو إمكان الأمل في إيجاد نظام ما للاختيار، بحيث يصل كل فرد بنشاطه إلى احتلال مكانه في أعلى مستوى ثقافي تؤهله له استعداداته الفطرية. والذي يهمنا في هذه النقطة هو أن ظهور فئات أكثر ثقافة لا يمر عديم الأثر على سائر المجتمع. فإن ظهور هذه الفئات هو نفسه جزء من عملية يتغير فيها المجتمع كله. ومن المحقق ـ وهذا الأمر يتضح على الأخص عندما ننظر إلى الفنون ـ أنه مع ظهور قيم جديدة، وازدياد مظاهر العناية في التفكير والحساسية والتعبير، تختفي بعض القيم القديمة. ولا معنى لذلك إلا أنك لن تجد جميع مراحل التقدم مجتمعة، وأن مدنيّة ما لا يمكن أن تنتج في وقت واحد شعرًا شعبيًا عظيمًا في أحد المستويات الثقافية و«الفردوس المفقود» في مستوى آخر. والحق أن الشيء الوحيد الذي نثق من الزمن بإحداثه أبدًا هو الخسارة، أما الكسب أو التعويض فإنه يوشك أن يكون متصوَّرًا دائمًا، إلّا أنه غير متيَقَّن أبدًا.
وإذا كان من الظاهر أن تقدم المدنيّة يستتبع ازدياد الفئات الثقافية المتخصصة، فإننا يجب ألّا ننتظر خلوَّ هذا التطور من المخاطر. فقد يأتي التفكك الثقافي على آثار التخصص الثقافي، وهو أقصى ما يمكن أن يعانيه مجتمع من تفكك جذري. وهو ليس النوع الوحيد، أو ليس الوجه الوحيد الذي يمكن أن يدرس منه التفكك، ولكن أيًّا يكن من هذه الوجوه سببًا وأيًّا يكن منها نتيجة فإن تفكك الثقافة هو أخطرها وأعزّها على الإصلاح (وهنا بالطبع نتكلم عن ثقافة المجتمع كله أولا وبالذات) ويجب ألا نخلط بينه وبين مرض آخر، وهو التحجر الطائفي لما لعله كان في البدء نظاما هرميا للوظائف فحسب، كما هو الحال في الهند الهندوسية، وإن كان من الجائز أن لكلا المرضين سلطانًا على المجتمع البريطاني اليوم. والتفكك الثقافي يوجد عندما ينفصل طبقان أو أكثر(11) بحيث يصبحان في الواقع ثقافتين متميزتين، وكذلك عندما تنقسم الثقافة في مستوى الفئة العليا أقساما يمثل كل منها منشطًا واحدًا من المناشط الثقافية. وإذا لم أكن مخطئًا فثمة الآن في المجتمع الغربي تفكك يحدث للطبقات التي تبلغ الثقافة فيها، أو ينبغي أن تبلغ، أعلى درجات نموِّها، كما أن هناك انفصالًا بين طباق المجتمع. فالتفكير الديني والعادات الدينية، والفلسفة والفن، كلها تميل إلى أن تصبح مناطق منعزلة تتعهدها فئات لا صلة بين بعضها وبعض. والحساسية الفنية تصاب بالفقر لفصلها عن الحساسية الدينية، والحساسية الدينية تصاب بالفقر لفصلها عن الحساسية الفنية وإثارة «السلوك المهذب» تترك لقلة متبقية من طبقة آخذة في الاختفاء، قلَّة لم يصقل الدين أو الفن حساسيتها، ولم تزود عقولها بمادة المحادثة الذكية، ولذلك فإن حياتهم ليس لها سياق يجعل لسلوكهم قيمة. والانتكاس في المستويات العليا لا يعني الجماعة التي يصيبها فحسب، بل يعني الشعب كله.
إنَّ أسباب الانحدار الشامل للثقافة معقدة بقدر تعدد الدلائل على هذا الانحدار. وبعض هذه الأسباب يمكن أن توجد في ما يسجله مختلف المتخصصين من أسباب لأمراض اجتماعية يمكننا تبينها بسهولة أكبر، ويجب علينا أن نستمر في التماس وسائل العلاج النوعية لها. على أننا لا نزال نزداد إدراكًا لمدى انطواء مشكلات العلاقة بين كل جزء من العالم وكل جزء آخر على هذه المشكلة المحيِّرة: مشكلة الثقافة. فعندما نُعنى بعلاقة الأمم الكبرى بعضها ببعض، وعلاقة الأمم الكبرى بالأمم الصغرى(12)، وعلاقة «الطوائف»(13) المختلطة، كما في الهند، بعضها ببعض، وعلاقة الأمم الأصلية بالفروع التي نشأت على أنها مستعمرات، وعلاقة المستعمر بالوطني، والعلاقة بين الشعوب في مناطق مثل جزر الهند الغربية، حيث أدى القهر أو الإغراء الاقتصادي إلى اجتماع أعداد كبيرة من أجناس مختلفة ـ فهناك وراء كل هذه المسائل المحيرة ـ التي تستتبع قرارات يجب أن يتخذها رجال كثيرون كل يوم ـ مسألة ما هي الثقافة؟ ومسألة ما إذا كانت شيئًا يمكننا الهيمنة عليه أوالتأثير فيه عن قصد، وتواجهنا هذه المسائل كلما ابتكرنا نظرية للتربية أو خططنا سياسة لها. فلو نظرنا إلى الثقافة نظرة جادة لرأينا أن الشعوب لا تحتاج فقط إلى طعام يكفيها (مع أنه حتى هذا يبدو أكثر مما نستطيع أن نوفره) بل تحتاج أيضًا إلى طريقة خاصة مناسبة لطهيه، وإن من أعراض انحدار الثقافة في بريطانيا لعدم المبالاة بفن إعداد الطعام. بل إن الثقافة يمكن أن توصف وصفًا مختصرًا بأنها ما يجعل الحياة تستحق أن تحيا. وهي التي تجعل الشعوب والأجيال على حق حين تقول وهي تتأمل آثار مدنيّة بائدة: إن هذه المدنيّة كانت تستحق أن توجد.