أنت هنا

قراءة كتاب دخان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دخان

دخان

كتاب " دخان " ،تأليف إيفان تورجنيف ترجمه إلى العربية شكري عياد ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 7

والتفت بمبايف وهو ينطق بهذه الكلمات إلى شاب وسيم واقف بالقرب منه، له وجه نضرٌ مورد، ترتسم عليه رزانة مبكرة. ووقف لتفينوف، ولم يعانق «الفذ» بل اكتفى بأن تبادل وإياه انحناءة مبتسرة، إذ كان مظهره الصارم العبوس يدل على أنه لم يسرّ كثيرًا بهذا التعريف المفاجئ.

واستمر بمبايف يقول:

ـ قلت لك إنه من الأفذاذ، وهذا صحيح. اذهب إلى المدرسة الحربية في بطرسبرج، وانظر إلى لوحتها الذهبية.. فمن عساك ترى اسمه في أول القائمة؟ إنه فوروشيلوف، سيميون ياكوفليفتش فوروشيلوف! ولكن جوباريوف.. جوباريوف يا صديقي هو من يجب أن نطير إليه! إنني أعبد ذلك الرجل عبادة! ولست وحدي الذي أعبده! كلهم، كلهم! آه، ما أعظم هذا الكتاب الذي يؤلفه! أووه...

فسأله لتفينوف:

ـ عن أي شيء؟

ـ عن كل شيء يا بني. يشبه كتب «بكل» تقريبًا(7)، إلا أنه أعمق.. أعمق.. سيقرر كل شيء ويوضح كل شيء.

ـ هل قرأت هذا الكتاب؟

ـ لا لم اقرأه، والحقيقة أنه لا يزال سرًا. ولكن جوباريوف لا يعجزه شيء! أجل! ـ وتنهد بمبايف وضم ذراعيه ـ آه لو كان لدينا عقلان أو ثلاثة كهذا! إذن لرأينا منهم العجب! ـ سأقول لك شيئًا واحدًا يا جريشا: مهما تكن أعمالك في هذه الأيام ـ فأنا لا أعرف عنها شيئًا ـ ومهما تكن معتقداتك ـ فأنا لا أعرف عنها شيئًا أيضًا ـ فسوف تتعلم من جوباريوف. إنه لسوء الحظ لن يطيل إقامته هنا، فيجب ألا نضيِّع وقتًا قبل رؤيته. هيّا إليه! إليه!

وبينما كان يتحدث مرَّ فتى متأنق ذو خصل صهباء مجعدة، يلبس قبعة قصيرة مزينة بشريط أزرق، وجعل يحدِّق فيه من خلال نظّارتيه وعلى وجهه ابتسامة ساخرة. فقال لتفينوف مغيظًا:

ـ لماذا تصرخ هكذا؟ من يسمعك يحسب أنك تزعق على كلاب صيد! إنني حتى الساعة ما تعشيت.

ـ حسنًا! عندي فكرة. نذهب حالا إلى مطعم فيبر.. ثلاثتنا معًا..

ثم أضاف همسًا:

ـ معك نقود لتدفع حسابي؟

ـ نعم نعم. ولكن في الحقيقة لا أدري...

ـ كيف!.. ستشكر لي هذا الجميل. سيسرّ بمعرفتك..

ثم صاح فجأة:

ـ يا للسماء؟ إنهم يعزفون ختام هرناني.. ما أروعه! آسوم موكارلو... يا لي من رجل! ما أقرب دمعتي! ألا تأتي معنا يا سيمون باكوفليفتش؟

وكان فوروشيلوف قد ظلّ واقفًا في وضع مهيب، فلم يلطّف شيئًا من سيمائه المتكبرة، بل عقد حاجبيه، وخفض عينيه، وتمتم شيئًا بين أسنانه.. ولكنه لم يرفض. وقال لتفينوف في نفسه: «لا ضرر من هذا. عندي وقت». وأمسك بمبايف بذراعه، ولكنه لم يمض به إلى المطعم إلا بعد أن أشار إلى ايزابيل بائعة الأزهار الشهيرة في نادي الفروسية، فقد بدا له أن يشتري منها باقة زهر. غير أن بائعة الأزهار الأرستقراطية لم تتحرك من مكانها.. فما الذي يرغمها على الدنو من سيد بغير قفاز، يلبس سترة من القطن، ورباط عنق مخططا، وحذاء مكعوبا، سيّد لم تر مثله حتى في باريس؟ وعندئذ أشار إليها فوروشيلوف بدوره، فاقتربت، وتناول من سلتها باقة صغيرة من البنفسج ورمى إليها فلورينا. وكان يحسب أنه سيدهشها بكرمه، ولكن هدبًا واحدًا لم يهتز على وجهها، بل زمّت شفتيها باحتقار بعد أن التفت منصرفًا.. فقد كان فوروشيلوف يرتدي ثيابًا أنيقة فاخرة، ولكن الفتاة الباريسية لمحت بعينيها الخبيرة أن هندامه ومسلكه ومشيته التي لم يخفى طابعها العسكري ـ كل ذلك كان خاليًا من «الأناقة» الحقيقية الأصيلة.

وبعد أن جلس أصحابنا في قاعة الطعام العامة وطلبوا طعامًا أخذوا يتحدثون. وتكلّم بمبايف بصوت مرتفع وحماسة بالغة عن مناقب جوباريوف، ولكنه سرعان ما كفّ عن الحديث وجعل يصب كوبًا في إثر كوب وهو يشهق ويزفر. أما فوروشيلوف فقد أكل قليلا وشرب قليلا، وكأنه لم يشارك في الطعام والشراب إلا مرغمًا. ثم سأل لتفينوف عن طبيعة أعماله، وأخذ يدلي بآرائه في شتى المسائل العامة أكثر من هذه الأعمال ذاتها. وما لبث أن أخذته الحماسة، فانطلق كالحصان الأرن، ومضى ينبر المقاطع والحروف كتلميذ واثق بنفسه ذهب ليؤدي الامتحان النهائي. وكان يصحب حديثه بإشارات حماسية لا داعي لها، ولم يقاطعه أحد فزاد اندفاعًا وتأكيدًا، حتى كأنه يتلو بحثًا أو محاضرة وكانت تنهمر من فمه أسماء أحدث العلماء الثقات، مع تاريخ ميلاد كل منهم أو تاريخ وفاته، وعناوين الرسائل التي ظهرت حديثًا في أفق البحث العلمي، وأسماء وأسماء وأسماء... وكانت هذه الأسماء تهبه رضاً عميقًا ينعكس على عينيه اللامعتين. كان فوروشيلوف في ما يظهر يحتقر كل قديم، ولا يقدِّر إلا زبدة الثقافة، أي أحدث المسائل العلمية وأرقاها. كان يلذّ له ويسعده أن يشير ـ ولو بغير مناسبة ـ إلى كتاب لشخص يدعى الدكتور تساوربنجل عن السجون البنسلفانية، أو إلى مقالات ظهرت بالأمس في «ألاسياتك جورنال» عن الفيدات والبورانات (وكان ينطق كلمة «جورنال» نطقًا إنجليزيًا مع أنه لم يكن يعرف الإنجليزية). وأصغى إليه لتفينوف ثم أصغى بغير أن يستطيع معرفة ناحية اختصاصه. فقد أفاض في الحديث عن الدور الذي لعبه الجنس الكلتي في التاريخ، ثم شطح إلى التاريخ القديم فتحدث عن الألواح الإيجينية، وتكلم بحماسة عن المثال الذي عاش قبل فيدياس ـ وهو أوناتاس ـ وسماه «جوناثان» فجعل للحديث كله نكهة بين نكهة الكتاب المقدَّس والنكهة الأمريكية. ثم قفز فجأة إلى الاقتصاد السياسي وسمى باستيات أبله أو غبيًا «مثل آدم سميث وسائر الفزيوقراطيين»، فتمتم بامبايف: «الفزيوقراطيين؟... الأرستقراطيين؟» وأثار علائم الحيرة على وجه بمبايف بقوله عن ماكولي ـ عرضًا وفي ثنايا الحديث ـأنه كاتب عتيق. لم تعد له قيمة بعدما وصل إليه علم التاريخ الحديث. أما جنايست، فقد صرح أنه ليس بحاجة حتى إلى ذكر اسمه، وهز كتفيه، فهز بمبايف كتفيه. وقال لتفينوف لنفسه وهو ينظر إلى صاحبه الجديد، بشعره الأصفر وعينيه الصافيتين وأسنانه البيضاء (وقد ضايقته على الخصوص هذه الأسنان الكبيرة الناصعة البياض وهاتين اليدان بإشاراتهما النابية): «هكذا بلا ترو ولا مناسبة وأمام غرباء.. في مطعم! ولكنه يبدو فتى طيبًا ساذجًا». وأخيرًا بدأ فوروشيلوف يهدأ! وتكسّر صوته الرنان كصوت ديك صغير، وانتهز بمبايف الفرصة فأنشد أبياتًا من الشعر، وتهدج صوته بالبكاء حتى روَّع مائدة قريبة كانت تجلس حولها أسرة إنجليزية، وأضحك مائدة أخرى كانت تجلس إليها غانيتان فرنسيتان مع مخلوق يشبه طفلا من عصر قديم بشعر مستعار. ثم أحضر النادل التذكرة ودفع الأصدقاء الحساب.

الصفحات