كتاب " طبيب في الجيش " ، تأليف د. ياسر سبسبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب طبيب في الجيش
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طبيب في الجيش
ـ إنني ودّعت زوجتي اليوم الوداع الأخير، لأنني قررت أن أتحدّى الموت مثل كل يوم، أن أصارع الجاذبية والريح، أتحدى نبضي وضغط دمي، أبارز البرق والرعد، أتحدى الخوف وحراب الذاكرة، قررت أن أعانق حبيبتي "الميغ" في الفضاء، وننطلق بالسرعة القصوى حتى نتحرر من كسل السهول وبلادة الجبال، حيث تطبق أجفاني بقوة الضغط وينفتح خيالي ليرى سفوح الوطن تستنشق الحرية، وتسمع أذناي زغاريد الفتيات في عرس التحرير، وينتعش قلبي مع قلوب الأطفال الذين ينصبون للمجد منارة عالية.
كانت عباراته حِكَماً تكتب بماء الذهب فوق هامة الجبل أو جبين النجم.
من حكمه التي لا ينساها الدكتور رامي أنّ بين الحياة والموت مسافة قصيرة كان يقيسها بالشعرة، ولا بد أن يكون للعزّة مكان بارز في ركني الشعرة، تدعمها وتقوّيها .
مرّة كان ينفّذ تدريباً صعباً على أطراف المدينة، ينزل بحركات لولبية حتى يقترب من الأرض ثم ينعطف للأعلى بلمح البصر، يحلّق منقلباً، أو مائلاً كحدّ السيف، يروح حتى يختفي بأحداق الأفق، ثم يجيء حتى تظنّ أنه البرق، يكاد يقبّل وجنة البحيرة بحميمية مدهشة وكأنه عاشق يقبّل وجنة معشوقته المتمنّعة، منهياً المشهد الغرامي معها بكامل النشوة دون الحاجة إلى طقوس من التعري!، وقد تتخيل في حركته النسر الثاقب النظر، البارع في القنص، يفرد جناحيه الواسعين ويهوي بانسيابية فائقة الجمال، يقتنص فريسته بمخالبه القوية المعقوفة، ويحلّق فاتحاً صدره ليرتوي علوّاً وسموّاً.
فجأة وهو يخترق جدار الصوت قُلعتْ "كابينة" الطائرة من جذورها بفعل الريح، تلك التي تغطي رأسه، وهذه في عرف الطيران واحدة من الحالات التي توجب على الطيّار القفز السريع بمظلته كي ينقذ نفسه ويترك الطائرة في حال سبيلها تتحطم كيفما شاءت، وهذا فعلاً ما أمره به برج القيادة والتحكم، لكنه لم تطاوعه نفسه المعتدّة أن يتركها تتحطم فوق أبنية المدينة المكتظة لما ستحدثه من قتل وتدمير، فالنسر ودود لعائلته وأهله!. تخطّى حاجز الخوف، ضبط نفسه وتحكّم في أعصابه، وهو الذي اعتاد الثبات في أحداق الخطر بقلب حديدي جامد لا يهاب الموت، انحنى قليلاً، رغم الحزام الذي يثبته، محاولاً التكوّم في المكان المخصص لوضع الساقين عند العدّادات والأسلاك كي يبعد رأسه عن مصدّ الهواء الذي قد يقتلع عينيه نتيجة السرعة، وتحكّم في الطائرة التي اختلّ توازنها وقادها خارج المدينة، وعندما قرّر أن يقذف نفسه، تذكّر أنّ في الأسفل مجموعة من الفلاحين يحصدون ويجمعون القشّ والغلال، فعرف أنّ الطائرة إذا سقطت هناك ستحدث حريقاً يقضي عليهم وعلى محاصيلهم ويمتدّ إلى كل الأراضي المجاورة، فآثرهم على نفسه مرة أخرى،.. كانت الشعرة دقيقة وقتئذ بين التهور والشجاعة التي هي عنده تعقّل، وحسن رويّة، والتزام بطريق الفضيلة والخروج من قوقعة الذات، والتعاطف مع الغير. تابع عدة دقائق أخرى ليبتعد عنهم، لكنه قرر في نفسه وقد اقترب من مدرج المطار أن يهبط بالطائرة وينقذها من التحطم رغم تحذير برج التحكم من ذلك وكأن المهمة شبه مستحيلة، فلعل تلك الشجاعة لديه كمنحة من العناية الإلهية ستكتمل سبباً ونتيجة.
ولطالما يعرف بطلنا تفاصيل طائرته وإمكانياتها أكثر مما يعرف أعضاء حبيبته، يعرف كيف يجعلها تتراقص في الريح بجمال العروس الممشوقة القد، واحتراف الراقصة الموهوبة، ويستطيع التحكّم في طاقاتها الكامنة بالتأكيد على نحو أسهل من فهم امرأته أو التحكّم في عواطفها.
قرّر أن ينقذها، وقد فعل،.. نال وساماً معنوياً في الشجاعة من رفقائه، أما قائده فقد أعفاه فقط من العقوبة التي كان يستحقّها بمغامرته ومخالفته للأوامر التي صدرت من برج القيادة والتحكّم كما قال! ومن ذلك اليوم وتلك الطائرة عزيزة على قلبه، يحبّ أن يقودها بعد أن تم إصلاحها، فهو يحسّ بوفائها لكونها مدينة له بالكثير.
ويذكر كيف نفد الأكسجين في خزان طائرته وهو على ارتفاع شاهق ونجا، وكيف انفجر بقربه صاروخ أثناء التدريب ونجا، وتبدو من مفارقات القدر تلك النهاية المأسوية التي وضعت حدّاً لأيامه التي قضاها محلّقاً في أجواء الوطن وفضاءات الأحلام.. سنقرأها في ما بعد في سطور هذه الرواية.