كتاب " ريكور والهيرمينوطيقا " ، تأليف د. أحمد عبد الحليم عطية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ريكور والهيرمينوطيقا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ريكور والهيرمينوطيقا
ثالثاً: الهيرمينوطيقا الظاهرياتية
تطلق على فلسفة ريكور في التفسير عدة مسميات هي عند جون طومبسون (الهيرمينوطيقا النقدية) وعند دون أهده (الهيرمينوطيقا الظاهرياتية) وأحياناً تسمى (الهيرمينوطيقا بعد البنيوية). وهي بالفعل تحتمل هذه المسميات. ومن هنا علينا أن نعرض تطور هيرمينوطيقاه، موضحين في سياق تناولنا المصادر والمؤثرات التي نهل منها وأخذ عنها ريكور انطلاقاً من الأساس الفلسفي لفلسفة الظاهرياتية الوجودية التي تمثل المرحلة الأولى التي تناول فيها مشكلة الإرادة والذنب والتناهي.
لقد استولى على تفكيره عام 1960 كما يقول في دراسته «من الوجودية إلى فلسفة اللغة» معضلة كيف يمكن تقديم بعض التجارب العميقة ضمن فلسفة الإرادة مثل: الإثم والعبودية والاغتراب وبلغة دينية الخطيئة. ويعبّر عن مثل هذه المشكلة باصطلاحات الفلسفة الوجودية، الحياة الزائفة بلغة هايدغر والمواقف المقيدة بلغة ياسبرز، والوجود والتملك واليأس مع مارسيل. وذلك للتمييز بين الإثم والتناهي اللذين اختارهما عنواناً يجمع كتابيه. يقول «كنت استندت بثقلي إلى المنهج التأملي الذي أتى به هوسرل والثنائي الوجودي ياسبرز ومارسيل» (16). وهو يصف عمله بالظاهرياتية الوجودية رغم أنه لم يطلق عليها في هذا الوقت إسم الظاهرياتية رغم قيامه بترجمته إلى الفرنسية رغبة في عدم الاحتماء بشرعية هوسرل. إلا أن دراسته كانت ظاهرياتية؛ بمعنى أنها حاولت أن تستخلص من التجربة المعيشة المعاني والبنى الأساسية للإرادة (17).
ينطلق ريكور من الدراسة التي افتتح بها كتابه من «النص إلى الفعل» (Du Texte à l’action) بعنوان التأويل من اهتمامه بالوظيفة السردية، وصلتها بأبحاثه السابقة عن الاستعارة، والتحليل النفسي، والرمزية، نحو الافتراضات النظرية والمنهجية التي يرتكز عليها بحثه حتى يصل إلى التقاليد الظاهرياتية والهيرمينوطيقية التي يرتبط بها حيث توضح أعماله المخصصة للوظيفة السردية القول بوحدة وظيفية بين الصيغ والأجناس السردية المتعددة. على أساس أن الطابع المشترك للتجربة الإنسانية المميز لفعل الحكي في جميع أشكاله إنما هو الطابع الزمني وهو موضوع كتابه «السرد والزمن» (18).
ويتناول ريكور العلاقة بين المشكلات التي أثارها في الوظيفة السردية والمشكلات التي تناولها في كتابه «الاستعارة الحية» . ذلك لأن البحث في المشكلات المشتركة بين المجالين واكتشافها بالرغم من اختلافاتهما سيقودنا نحو الآفاق الفلسفية الأكثر اتساعاً لفلسفته (19).
يحدثنا عن التقليد الفلسفي الذي ينتمي إليه وكيف تندرج اهتماماته ضمن هذا الاتجاه الفلسفي حيث يتميز هذا التقليد بثلاثة ملامح هي:
إنه يندرج ضمن فلسفة تأملية، ويبقى في منطقة الظاهرياتية الهوسرلية، ويريد أن يكون أحد المغايرات الهيرمينوطيقية لهذه الفينومينولوجيا. علينا توضيح ذلك في النقاط التالية:
التأمل العقلي (البحث عن المعنى)
أ ـ يقصد ريكور بالفلسفة التأملية صيغة التفكير المنحدرة من الكوجيتو الديكارتي عبر فلسفة كانط والكانطية الجديدة الفرنسية، ومن هنا يضعه جان لاكروا ضمن «فلسفات التأمل العقلي». يقول لاكروا: «المنهج التفكيري التأملي قد حطم تحالفه مع المثالية. وبدلاً من أن يكون بعيداً عن الحياة المعاشة، نجده قد أخذ يضيء الوجود بالأفكار وهذه الإضاءة استخلاص لمعناه: هكذا عرف ريكور كيف يعي وعياً أعمق من سابقيه ومعاصريه مشكلته هو، وهي مشكلة تفسير واستخلاص المعنى أي ما يطلق عليه اسم التأويل» (20). ويضيف موضحاً عنوان دراسته عن ريكور «فلسفة المعنى» أن «مشروع ريكور ينحصر في إيجاد حقيقة المعنى عن طريق مجهود يبذل لإزالة الحجب التي يختفي وراءها المعنى، وكشفت فلسفته التي أنشأها حول الإرادة عن كل دلالتها حين أصبحت شيئاً فشيئاً تأملاً حقيقياً في اللغة (21)، والمعضلات التي تعتبرها أي فلسفة تأملية المعضلات الأكثر جذرية هي تلك المتصلة بإمكانية فهم الذات بوصفها ذاتاً فاعلة لعمليات المعرفة والإرادة والتقييم. والتأمل (التفكير) هو فعل العودة إلى الذات الذي من خلاله تمسك الذات الفاعلة بالمبدأ الموحد للعمليات التي تتشتت داخلها وتنسى نفسها بوصفها ذاتاً فاعلة». وإذا كان كانط الذي يستشهد به ريكور يقول الأنا أفكر يجب أن تتمكن من مصاحبة جميع تمثلاتي فإن في هذه الصيغة كما يرى ريكور تتعرف جميع الفلسفات التأملية على ذاتها؛ وسؤاله الذي يطرحه علينا هو كيف تعرف «الأنا أفكر» نفسها؟ هنا تأتي الظاهريات ـ والهيرمينوطيقا ـ لتمثل انجازاً وتحويلاً جذرياً في آن الفلسفة التأملية.
ب ـ يرى ريكور أن فكرة التأمل ترتبط بها رغبة في تطابق تام للنفس مع ذاتها بحيث يجعل من وعي الذات معرفة أكيدة تكون أكثر جوهرية من جميع المعارف الوصفية. وهوسرل يفهم الظاهريات على أنها ليست فقط منهجاً للوصف الجوهري لوصف التجربة الأساسية: الخيالية العقلية والإرادة والأخلاقية بل بوصفها تأسيساً جذرياً داخل الوضع العقلي (22)، على أن الظاهريات في ممارستها الفعلية وليس على مستوى التنظير الذي تطبقه على نفسها وعلى تطلعاتها النهائية تسجل ابتعاداً فيما يرى ريكور عن الحلم المتصل بالتأسيس الجذري ضمن شفافية الذات الفاعلة مع نفسها.
جـ ـ هنا تأتي الهيرمينوطيقا. ويبيّن ريكور أن النتيجة المفارقة التي نتجت عن مأزق الظاهريات، توضح كيف تنشأ الهيرمينوطيقا من قلب الظاهريات. قد يخيل إلى القارىء أن تاريخ الهيرمينوطيقا يجعلها غريبة عن التقليد التأملي والظاهرياتية، فقد نشأت مع شلايرماخر (23) نتيجة تقارب تفسير التوراة مع فقه اللغة الكلاسيكي مع أحكام القضاء، وقد تم ذلك بفضل تقديم سؤال ما الفهم؟ على سؤال معنى هذا النص أو ذاك؟. يقول ريكور: «إن هذا البحث عن الفهم (Verstehen) هو الذي أدى بعد قرن من الزمن إلى الالتقاء بالسؤال الظاهرياتيعن تمحيص المعنى القصدي للأفعال الفكرية» (24). لقد كان لدى كل منهما: الظاهريات والهيرمينوطيقا السؤال الأساسي نفسه عن العلاقة بين المعنى معقولية الأول وتأملية الثاني.