أنت هنا

قراءة كتاب الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية

الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية

كتاب " الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية " ، تأليف محسن مهدي ، وترجمه إلى العربية د. وداد الحاج حسن، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

تمهيد

يقدم محسن مهدي في كتابه هذا، عرضاً شاملاً جديداً تمام الجدّة لتعاليم الفارابي في حقْلَيْ الملّة والعلم المدني (السياسة) (*). وهو هنا يقوم بهذا العمل متحلياً بفهم عميق وتبصُّر فلسفي مستندٍ إلى عقود من البحث الأكاديمي، وإلى ما حققه من مخطوطات، وكذلك إلى إعادة اكتشافه لمجال الفلسفة المدنية الوسيطية في التراث الإسلامي ولمركز اهتمامها. وهو أقدم على ذلك لسبب وجيه، هو إظهار الكيفية التي اعتمدها فيلسوف بارع في تناوله المسائل الملّية والمدنية بصورة عامة، وتلك التي نشأت أيضاً ضمن السياق الإسلامي الوسيط بوجه خاص. لذلك تجده يطرح مباشرة، أمام القارئ، تلك المسائل وما يتصل بها، من دون اللجوء، في مثل ذلك المشروع، إلى إجراءات تقليدية كتقديم تقييم مفصّل عما يدور حوله الكتاب، أو عن منهجه، ومن دون أن يفيد الكثير عمّا هو ناجع في الأدبيات العلمية المعاصرة عن الفارابي. ويمكن تبرير قرار المؤلِّف بتجاوز مثل تلك الأمور بالقول أنه أراد التركيز، منذ البدء، على ما هو أكثر أهمية، والمتمثل بعرض كيفية تأسيس الفارابي للفلسفة المدنية الإسلامية. ولمزيد من توضيح هذا التوجّه لدى مهدي، ليس من الخطأ أن نقدِّم هنا موجزاً عن كلا الموضوعين.

***

لقد ركّز مهدي في المدخل، على العقبات الكبرى التي يواجهها كل الذين يسعون إلى فهم الفارابي، وعلى ما يظهر من أعماله على أنها ذات طابع أفلاطوني محدث. فقد تكلم بإيجاز عن حياة الفارابي والسياق الفكري الذي نما فيه؛ وكان هدفه من ذلك أن يشير إلى أن الفارابي، عندما صاغ فلسفته المدنية، مال أكثر إلى الحركة التي سبقت الأفلاطونية المحدثة، ألا وهي الأفلاطونية الوسيطة. فلقد ازدهرت تلك المدرسة في تفسير أفلاطون من حوالي عام 25ق.م. حتى حوالى عام 250م، وهي الفترة الممتدة من Antiochus of Ascalon حتى زمن أفلوطين Plotinus . وبالرغم من أن Didaskalikos لـ Alcinous هو أفضل النصوص الموجودة تمثيلاً لمعتقدات هذه الحركة، فإن مهدي لم يحاول هنا أن يعيِّن مصادر يُفترض أن الفارابي قد اعتمد عليها. إن توكيده على كيفية استعمال الفارابي لمثل هذا المنهج الأفلاطوني في التفسير، أكثر منه للمنهج الأفلاطوني الجديد المرتبط بمسائل لاهوتية، قد سمح له، أكثر فأكثر، بالتركيز على اهتمامات أفلاطون المدنية محاولاً، وفي الوقت عينه، جعل أرسطو أكثر قبولاً لدى قرائه. وبالإضافة إلى ذلك، أشار مهدي إلى أن الفارابي، على الرغم من سلوكه هذا المسلك، استعمل مواضيع الأفلاطونية المحدثة ولغتها الأساسية ليقترح شكلاً من التوافق بين الأنواع، بين الفلسفة والملّة، وإن كان يُخضع الأخيرة للأولى في نهاية المطاف. إنّ اكتشاف مهدي يتمثَّل في إبراز ما شكلته الأفلاطونية الوسيطة من أهمية بالنسبة إلى الفارابي، ويتمثل أيضاً في تأكيده على أن المصنَّفين اللذين يُعتبران عادة ممثلين لكامل تعاليم الفارابي المدنية - مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة، والسياسة المدنية - يلعبان في الزمان الحاضر دوراً آخر لا يمكن تقديره حق تقدير، إلّا في ضوء مشروع الفارابي الجديد الذي عرضه فيما بعد في مصنّف إحصاء العلوم، الفصل الخامس، وخصوصاً في مصنّف كتاب الملّة.

وبعد اعترافه بما تستحقه أعمال إبراهيم مدكور المبكرة عن الفارابي من تقدير، والتي بقيت غير مكتملة كما كانت بالضرورة، عيّن مهدي ليو شتراوس (Leo Strauss) كأول باحث أدرك أهمية ثلاثية الفارابي، فلسفة أفلاطون وأرسطو، واستكشف بعد ذلك استعمال الفارابي لأفلاطون في بحثه الذي استعرض فيه فلسفة هذا الأخير . وفي نظر مهدي، فإن نفاذ بصيرة شتراوس جعل من الممكن إعادة النظر بمصنّف إحصاء العلوم، الفصل الخامس، وقد سمح اكتشاف مهدي الخاص لمصنَّف كتاب الملّة، البالغ الأهمية، أن يرى بأي معنى يحتاج مصنَّفا آراء أهل المدينة الفاضلة، والسياسة المدنية إلى أن يُفهما أساساً كنموذجين أو أسلوبين يعرض فيهما الفارابي العلم المدني عرضاً جديداً (علم السياسة)، وخصوصاً للعلاقة بين المدينة والملّة التي سلط عليها الضوء في مصنَّف كتاب الملّة. إن اكتشاف تعاليم الفارابي الجديدة في العلم المدني يعتبر مركزياً وأساسياً للحجة التي يستند إليها مجمل الكتاب، ويشكِّل أيضاً لبَّ إسهامات مهدي الفريدة الكامنة في فهم الفارابي، والأبحاث الدائرة حول هذا الفيلسوف البالغ الأهمية. ولهذا السبب خصّص معظم مقدمته لشرح دواعي قراءة مصنّفي آراء أهل المدينة الفاضلة، والسياسة المدنية بطريقة جديدة ولكي نفهم، بالإضافة إلى ذلك، السبب الحقيقي، الذي جعل الفارابي يستهل كتابه، الذي يبدو أولاً وبشكل أساسي على أنه تعاليم مدنية، بتعاليم تتناول أصل الكون.

وبالتالي، منذ نشر ليو شتراوس مقالته عنه في العام 1945، فإن مهدي لا يشير إلى الدراسات التي أجريت حول الفارابي، باستثناء إحالته غير المباشرة إلى تفسير ريتشارد والتزار الخاطئ للمدينة الفاضلة - كما هو بيِّن في طبعة وترجمة المصنّف، المرفقة بتعليق، والتي نشرت بعد أربعة عقود لاحقة. لا شك إن صمت مهدي مفهوم، إذ لم يظهر شيئ ذو أهمية فيما يتعلق بفلسفة الفارابي المدنية خلال تلك السنوات الفاصلة، إذ إن مقدمة الأستاذ د. م. دنلوب لطبعته وترجمته لمصنّف الفارابي فصول المدني (1961) كررت، فقط، الأفكار الرائجة حول أفلاطونية الفارابي الجديدة. وقد استندت آن ك. لامبتون استناداً واسعاً إلى كتابات مهدي الخاصة عند تناولها فلسفة الفارابي المدنية في ملحق كتابها المعنون (الدولة والحكم في العصور الإسلامية الوسيطة: مدخل إلى دراسة نظرية الإسلام السياسية: الفقهاء) (1983). ولم ينشر، منذ ذلك الحين، سوى كتابين، وكلاهما لطالبين من طلاب محسن مهدي.

لقد كانت سنة 1990، سنة صدور كتاب ميريام غالستون، السياسة والفضيلة: فلسفة الفارابي المدنية. وبعده بخمس سنوات، صدر كتاب يوشوا بارينز الميتافيزيقا كبلاغة: تلخيص نواميس أفلاطون، للفارابي. ويمثل الكتابان محاولة لشرح كامل تعاليم الفارابي المدنية. لقد تناولت غالستون من خلال ذلك الموضوع الأفكار الرئيسية، متفحصة المواضيع المختلفة التي تطرق إليها الفارابي في كتاباته المتنوعة - بما فيها كتاباته في المنطق - وقارنت فهمها الخاص لتعاليمه مع الفهم الخاص الذي طرحه، من قَبْل، شارحو الفارابي منذ مدكور. إن هذا الكتاب على شيء من الأهمية نظراً لما أظهرته من حرص في تتبعها وإبرازها للأفكار الخاصة التي تضمّنتها مختلف نصوص الفارابي ولاستعمالها الهادئ، إنما الحازم لهذه التحليلات، في آن، من أجل تصويب التفسيرات السابقة. وقد تناول بارنز، من ناحيته، تعاليم الفارابي المدنية متفحّصاً مختلف وجوه كتاب تلخيص نواميس أفلاطون، القليل الشهرة. كما أجبره مشروعه أن يتناول مصنَّفيّ النواميس، والجمهورية وحوارات أخرى لأفلاطون، وكذلك مصنفات الفارابي - خصوصاً السياسة المدنية، وآراء أهل المدينة الفاضلة، وإحصاء العلوم، وكتاب الملّة، إضافة إلى سلسلة واسعة من الدراسات عن الفارابي عموماً، كما تناول تلخيص نواميس أفلاطون للفارابي بخاصة.

وما إن يدرك القارئ طريقة عرض مهدي للأدبيات الثانوية في المقدمة - خاصة لجهة تعيين تلك الكتابات التي قادته إلى فهمه الخاص لتعاليم الفارابي، وإلى إيحائه الحذر إلى أبعد حد بأن فهمه هذا يختلف كثيراً عمّا شاع من آراء في تلك التعاليم مؤخراً - حتى يصبح صمت مهدي عن تلك المصنّفات التي كتبها طلابه مفهوماً تماماً. فضلاً عن ذلك، وعلى افتراض أن تلك الكتب كانت، بالضرورة، تعتمد على بحثه، وتعكس بالتالي تأثيره، فإن تكتمه عنها يبدو جديراً بالثناء. هكذا، أيضاً، هو تردده في التنازع معها، وحتى محاولته تصويب ما وجده فيها من عيوب في التفسير. لقد اعتمدت حجج مهدي وتفسيراته على دراسات شاملة، وعلى بحث مضنٍ في المصادر الأولية، وعلى التحقيق الدؤوب، وعلى عرض للمخطوطات التي اكتشفها، وهي مخطوطات لم تُحقّق حتى الآن في هذا السياق، وعلى التفكير في العقائد والمدارس الفكرية، وعلى تقديره المتمعن لأهمية الأدبيات الثانوية. غير أن هذه الحجج والتفسيرات معروضة هنا، كاستدلالات مقنعة، وكأحكام فلسفية تعتمد على استنتاجات منطقية أكثر من اعتمادها على الجدل الأكاديمي.

مرة ثانية، ولأن آخرين كتبوا لاحقاً حول تعاليم الفارابي الفلسفية الأكثر شمولاً - دومينيك مالّيه وتيريز - آن ودروار وشكري عابد، حتى لا نذكر سواهم من الذين تابعوا دراستهم أيضاً مع مهدي ـ فقد امتنع من جهته عن ذكر كتاباتهم. ويبدو أن رغبته في ألا يصبح الكتاب مجرّد مدح أكثر من كونه مناظرة جدلية، قد حالت دون قيامه بذكر أعمال أولئك أو مناقشتها، سواء كانوا ممن يتفق معهم أو لا يتفق، باستثناء حالة واحدة سبق ذكرها. ولاعتبارات أخرى ذات الصلة أيضاً، فقد اتبع مهدي مقاربة فريدة في هذا الكتاب: إذ أن اشتهاره بالبحث العلمي المضني والشامل جعله يتجنب التقيّد بالعرف العلمي المتمثل بالإحالة إلى الأدبيات الثانوية التي تمتُّ بصلة إلى موضوعه الخاص من قريب أو بعيد. ومن جهتي، فإنني أعتقد أنه قام بذلك لإجبار القارئ على أن يتفحص معه نصوص الفارابي التي يستعرضها، وأن يفكر أولاً بما تتضمَّنه من معانٍ فلسفية. لذلك، فإن كتابه لا يوازيه كتاب في تاريخ الدراسات عن الفارابي.

الصفحات