كتاب " الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية " ، تأليف محسن مهدي ، وترجمه إلى العربية د. وداد الحاج حسن، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية
القسم الأول
الفلسفة وعلم الفقه وعلم الكلام
الفصل الأول
الوجهة المدنية للفلسفة الإسلامية
"بادئ ذي بدء، اسمحوا لي أن أتكلم عن مؤسستنا الكنسية والتي هي أولى أحكامنا المسبقة، وحُكمنا المسبق هذا ليس حكماً يفتقر إلى العقل، إنما هو قناعة تتضمَّن حكمة واسعة وعميقة الجذور. ولئن تكلمت عنها أولاً فلأن هذه المؤسسة هي، في أذهاننا، البداية والنهاية والوسط. وكذلك لأننا، عندما نعتمد على نظامنا الديني الذي نؤمن به اليوم، نستمر في عملنا، متوافقين مع الفهم المتّسق والمستمر للجنس البشري منذ الأزمنة السحيقة. إن هذا الفهم لم يَبنِ، مثل معماري حكيم، نسيج الدول الجليل فحسب، ولكنه، مثل مالك، بعيد النظر، عازم على حماية بنائه من الامتهان والخراب - على غرار هيكل مقدس طهِّر من كل شوائب الاحتيال والعنف والظلم والطغيان - كرّس الجمهورية، وكل من يؤدي فيها وظيفة، رسمياً وإلى الأبد. وقد تمّ هذا التكريس لكي يكوِّن كل الذين يمارسون وظيفة أو دوراً في الرئاسة، حيث يمثِّلون مقام الله نفسه، فكرةً سامية، وقيّمة، عن وظيفتهم وغايتهم، لكي يكون أملهم بالخلود كبيراً. ويجب على هؤلاء أن لا يتعلقوا باعتبارات الربح الخسيسة ولا بالمديح العابر الآتي من العامة، إنما بالوجود الدائم، ولكن الثابت، ضمن القسم الدائم من "طبيعتهم"، وكذلك بسمعة ومجد يخلدهما المثال الذي يتركونه إرثاً غنياً في هذا الكون".
في هذا البيان المقتطف من أفكار حول الثورة الفرنسية (47-644)، يوجز بورك (Burke) واحدة من المقدمات المنطقية الأساسية التي قام على أساسها اللاهوت والفلسفة المدنية الغربيتين قبل القرن السادس عشر، واللذين تمرّد عليهما فلاسفة السياسة الغربيون منذ ذلك الحين. (يستطيع المرء بالتأكيد إيجاد بعض قدامى أتباع المذهب الإبيقوري ـ مذهب اللذة ـ وفلاسفة ملّيين غربيين ممن يقفون موقفاً مختلفاً، غير أنهم لم يستطيعوا قط، في الماضي، أن يشكلوا تحدياً جدياً لوجهة النظر المذكورة أعلاه، كما لم يعرقلوا ما تلاها من تمرّد ناجح ضدها)، ونحن هنا سنتصدى للمسألة نفسها كما طرحت في الفلسفة الإسلامية.
وحسب الرأي الشائع، فإن فعل الإنسان، الذي يطلق عليه اسم الفلسفة، ليس ضرورياً ولا مفيداً، ولهذا تجبر سيادة هذا الاعتقاد الفلسفة على أن تبرر نفسها. غير أنه من الملائم، قبل ذلك، طرح السؤال حول ما هو ضروري ومفيد للإنسان، وعند الضرورة حول طبيعة الإنسان. ويتمثّل أحد أشكال مقاربة مسألة "ما هو الإنسان؟" في النظر إلى المكان الذي يحتلّه في العالم، والتأمّل في ما يمكن أن يميِّزه عن باقي الكائنات التي نراها أو نتخيَّلها. ويرجع السؤال إلى ما يلي: هل يختلف عقل الإنسان أو ذكاؤه عن بقية العالم الطبيعي وتلك الأجزاء الأخرى من وجوده التي يشاطرها مع الحيوانات الأكثر تطوراً من غيرها؟ أم هل أن عقل الإنسان هو مجرّد آلية ذهنية أكثر تعقيداً من آلية الحيوانات الأخرى، ومجرّد توسيع، أو تحسين للمؤهلات الحيوانية المستخدمة في تلبية الحاجات، والشهوات، والأهواء عينها التي تتمتع بها الحيوانات، ولكن بطريقة أكثر فعالية واكتمالاً؟ إن هذا السؤال غير منفصل عن السؤال المتعلِّق بمكوّنات العلم المدني. لقد أدرك الأقدمون والأحدثون، على حد سواء، الإنسان باعتباره "حيواناً مدنياًً"؛ وحيواناً يختلف عن الحيوانات الأخرى في أنه يعيش ويتصرف ويتتبع أهدافه ضمن جماعة مدنية. وإنَّ هدف السؤالين اللذين أطرحهما وهما: "ما هو الإنسان" و"ما هي المدينة" هو هدف واحد ينطلق من موقعين مختلفين.
لقد شاطرت الفلسفة الإسلامية الأقدمين نظرتهم إلى الإنسان باعتباره كائناً من نوع خاص، يتميّز عن بقية الحيوانات بقدرته على عقل الأشياء، أي على أن يعرف نفسه ويعرف الكل، وبالتالي فإن عقل الأشياء هو الغرض النهائي لوجوده. وقد اعتبرت الفلسفة الإسلامية هذا الفرق بين الإنسان والموجودات الحيّة الأخرى فرقاً جذرياً، يعادل في جذريته، إن لم يكن أكثر، جذرية الفرق بين الموجودات الحيّة والأشياء الجامدة، بين الموجودات التي تتمتع بنفس وتلك العديمة النفس.
وهذه الرؤية هي في الواقع رؤية فلسفية. مع أن الفيلسوف لا يعيش بين موجودات عديمة الحيوية أو حيوانات أخرى يجادلها، أو يبرر لها موقفه، إنما بالأحرى يتحادث مع بشر آخرين؛ بشر مثله، سبقوه في الانتماء إلى جماعة سياسية كأعضاء أو كمواطنين. مع ذلك هم، عموماً، محصنون ضد الفلسفة والسيرة التي تستلزمها هذه الفلسفة. وبدلاً من ذلك، ينطلقون من قناعتهم العامة بأن الآراء الأساسية المقبولة من الجماعة المدنية، والتي تتبعها هذه الجماعة، هي آراء معيارية وليست موضع تساؤل من أي نوع؛ فالتشكيك بهذه الآراء يمكن أن يعرِّض صاحبه إلى تهمة الخيانة، ويبرر نفيه أو هدر دمه. ويطرح هذا الأمر على الفيلسوف المعضلة التالية: إذا كان سبب وجود الإنسان وتميّزه عن بقية الحيوانات هو استعمال عقله وقدرته على المعرفة - وهذا ما يعتقد به الفيلسوف اعتقاداً راسخاً - وإذا كانت مثل هذه المعرفة موجهة لتتفحص عن القناعات والآراء وبالتالي للتقصّي عن كل شيء، وإذا كانت الجماعة المدنية تنكر الحاجة لمثل هذا التقصّي وتحول دون إمكانية نيله، فإن الجماعة المدنية، بنتيجة ذلك، تكون قد اعتمدت سابقاً رؤية تقول بأن الهدف الحقيقي للحياة المدنية والإنسان نفسه هو اكتساب فعالية أكبر في بلوغ غايات ليست خاصة بالإنسان، إنما هي صيغ أكثر تعقيداً لغايات تسعى إليها بعض الحيوانات الأخرى: اللذة والغنى والشرف، إلخ. ومن هذه النقطة بالذات ينطلق النزاع التقليدي (الكلاسيكي) بين الفلسفة والجماعة المدنية.