أنت هنا

قراءة كتاب الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية

الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية

كتاب " الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية " ، تأليف محسن مهدي ، وترجمه إلى العربية د. وداد الحاج حسن، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

ليس في وسع المرء، إذن، القبول بمواقف الفقهاء والمتكلمين، كما هي عليه في الظاهر، حول الآراء والأفعال المفروضة في مللهم الخاصة، لأنهم مدافعون عن ملّتهم الخاصة وليسوا بعلماء ذوي وجهات نظر محايدة. وبخلاف العلم المدني عند الفارابي، ليس الفقه والكلام علميَّين، إذ إنهما صناعتان عمليتان مبنيتان على الآراء والأفعال التي وضعها الرئيس الأوّل لكل ملّة. غير أن الأهمية الممنوحة لآراء الفقهاء والكلاميين تتطلب أيضاً إيلاء اهتمام كبير للآراء والأفعال. لذلك ينبغي التخلي عن العلم المدني الأرسطي الذي يركز وجهته بصورة أساسية على الأفعال، أو يجب ضمَّه إلى علم مدني أفلاطوني يكترث بصورة متكافئة، إن لم يكن أكثر، للآراء أيضاً. وينبغي على المهنة الملكية الفاضلة، أيضاً، أن تكون موضع عناية عظيم الشأن. ففي الفصل الخامس من مصنّف إحصاء العلوم ، ينتقل الفارابي من وصف موجز لعلم مدني عملي يأتي في المرتبة الثانية بعد العلوم النظرية المذكورة في الفصل الرابع إلى علم مدني أكثر انسجاماً مع فلسفة أفلاطون، مركِّزاً بذلك على الناحية العملية من العلم المدني.

إن آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية مصنَّفان يعينهما عنوانهما بوضوح كجزءين من الفلسفة العملية؛ فهما مصنَّفان مدنيَّان. مع ذلك، يحتويان على مواضيع تنتمي بالمعنى الحقيقي إلى العلوم النظرية، والعلم الطبيعي والإلهيات. ولا يسعنا التأكيد بصورة كافية على الطابع المدني لهذين المصنَّفين إذا ما أخذا بإجمالهما، بما في ذلك ما يسمى بالجزءين ما وراء الطبيعي والطبيعي، أو على الطابع المدني لهذين الجزءين اللذين يبدوان نظريين ليس إلّا. ولأننا نعلم من كتاب الملَّة ومن الفصل الخامس من مصنَّف إحصاء العلوم أن الآراء في الله والعالم، والآراء في أفعال الإنسان، يمكن عرضها بطريقة ليست نظرية وعلمية بحتة، فإنه لأمر حاسم، إذن، أن نحدِّد ما إذا كان مصنَّفا آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية مصنَّفين علميَّين وإلى أي مدى هما كذلك، خصوصاً أن المصنَّفين لا يدّعيان لنفسهما هذه الصفة، ولا يتبعان خطوات البحث العلمي الذي يفترض بالعلوم أن تتبعها؛ فليس الكتابان كتابين في الاستقصاء والبرهان. ويكفي ذلك لحملنا على عدم اعتبار ما يعرضه الفارابي وكأنه عرض علمي، لاسيما إذا كان طابعه مدنياً ولا يدّعي لنفسه الصفة العلمية. من المهم أن نتذكَّر هذا دائماً نظراً للخلط المتكرر الحاصل بين الرؤى المعبَّر عنها في آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية وتلك التي تعبِّر عن رؤية الفارابي الفلسفية والعلمية.

كما وأن الآراء المعبَّر عنها في هذين المصنَّفين ليست وليدة سياق مدني محدَّد وحسب (كونها مشرَّعة)؛ بل هي وثيقة الصلة بالسياسة وهامّة، لا بل حاسمة لأنها تشير إلى الغايات (أو رؤية السعادة) التي لأجلها تفعل الأفعال، الأمر الذي يشكِّل مسألة أساسية في العلم المدني. كذلك تشير إلى أساس التمييز بين الخيرات والأفعال الجميلة والفضائل، والأشياء المفيدة، ونقائضها 102.14ff )، كما تبيّن أساس التمييز بين الأنظمة السياسية وبين أنواع الرئاسات 103.1ff ).

***

باختصار، فإن مصنَّفي آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية عملان متوازيان، علماً بأنهما ليسا متماثلين في كل أمر. وبشكل عام، فإن كلاهما مقسمان إلى ما يمكن أن يبدو قسماً تصورياً للكون (علم كون مدني أو علم كلام مدني)، وقسماً مدنياً. ويحتويان على عناصر مشتقة من فلسفة أفلاطون وأرسطو، إنما إطارها العام أفلاطوني أكثر منه أرسطي.

يستعرض مصنّفا إحصاء العلوم وكتاب الملّة وظائف العلم المدني التي تماثل جزئياً موضوع مصنّفي آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية. لذلك، فإنّ تقسيم مادة هذين المصنَّفين إلى قسمين، أحدهما تصوري للكون وثانيهما مدني، ليس تقسيماً دقيقاً لأن الشأن المدني متمثَّل بموضوع علم الكون، والشأن الكوني متمثَّل بالشأن المدني. فإذا تغاضينا عن الشأن المدني سوف لن نتمكن من أن نفسِّر لماذا يحتل الإنسان والاجتماع مثل هذا الموقع المسيطر في هذين المصنَّفين، بالمقارنة، على سبيل المثال، مع كتاب إسطقسات اللاهوت (Element of Theology) لبروكليس (Proclus) ؛ لأن الإنسان ليس الموجود الأول (فالله هو الأول) أو الجسم الأول (الأجسام السماوية هي الأولى). وسوف لا يسعنا تعريف العلم الذي يعالجه هذان العملان. ووفقاً لـ كتاب الملّة، فإن كل شيء فيهما يشكّل جزءاً من موضوع العلم المدني. ومن ناحية أخرى ليس واضحاً أولاً لماذا ينبغي على مصنَّف في الشأن المدني أن يبدأ على هذا النحو وأن يتَّبع هذا المنهج. فبالإمكان، في المصنَّفين، اعتماد طرق متنوعة ومختلفة للاستقصاء: (1) الإنسان: موقعه داخل الكل (المبادئ والأجسام التي يبدأ بها مصنّف السياسة المدنية ) والعلاقة بين نفسه، والصورة، والمادة وبقية المبادئ والأجسام في الكون. (2) المطلوب من العلم المدني في كتاب الملّة... أن يستقصي ويستعلم عن كوامن الكون، وعن الجسم، وعن المدينة، من أجل استخراج بعض الوجوه أو الخصائص التي تميزهم في الداخل؛ فقد أحصيت تلك الأنشطة تفصيلاً في كتاب الملّة. ينبغي العودة من جديد إلى مصنّف السياسة المدنية وإلى آراء أهل المدينة الفاضلة لإيجاد تفسير لكيفية قيام العلم المدني ببعض المهام التي حددت له في الفصل الخامس من مصنّف إحصاء العلوم وفي كتاب الملّة، ولكيفية تطبيق بعض القوانين العامة التي وصفت على هاتين الحالتين الخاصتين. (3) بما أن العلم المدني يعني العلم المهتم بالمدينة، فمن المناسب التنبّه بشكل خاص إلى أقسام مصنّفي السياسة المدنية و آراء أهل المدينة الفاضلة التي تعالج شؤون المدينة، لكي نفهم كيف تشكلت المدينة وفقاً لنموذج الكون أو جسم الإنسان. وبالعكس، يحتاج المرء إلى أن يتفحَّص عن كيفية عرض الكون وجسم الانسان في هذين الكتابين، أي ما إذا كانا يهدفان إلى إثبات الخصائص، أو التشديد على الخصائص، الملائمة للعلم المدني والتي يمكن محاكاتها. وهذا يعني أن الفارابي يمكن ألَّا يكون راغباً في التقصي عن الطبيعة في حدّ ذاتها، إنما هو راغب في استخدام التفسير الأكثر احتمالاً للكون، وهو التفسير الذي عرضه أرسطو وعدّله بطليموس، ثم استعاده الفارابي نفسه مضفياً على عرضه لها الطابع المدني ليجعل منه مدخلاً لعرضه عن المدينة. والسؤال المطروح هنا هو معرفة ما إذا كان الكون وجسم الإنسان، قد شرحا مدنياً من قبل، وإلى أي مدى تمّ ذلك، أو ما إذا ما كانت استنتاجات الاستقصاءات العلمية قد عدِّلت لجعلها تتوافق مع آراء المدنيين وتقديمها كمثل لبناء المدينة. وبهذا المعنى، لا يصحّ تماماً التحدّث عن "علم كون مدني" أو عن "أسطورة"، أي عن كون أو جسم إنسان يتم تفسيره من دون الاكتراث بالتفسيرات العلمية لهما. وذلك بالضبط لأن العلاقة بين العلم والمدينة، وهي مسألة موضع جدل، وهي معضلة ناقشها الفارابي بتفصيل أكثر عندما تفحص عن جذور آراء المدن (أو الملل)، الجاهلة أو الضالة، في نهاية مصنَّفي آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية. وهذا والمغزى هنا هو أنه مثلما كانت الآراء القديمة، الصائبة منها والفاسدة، تفسر رؤى تلك المدن، يفترض بأن تكون الآراء الحديثة غير الفاسدة أساساً لرؤى المدينة الفاضلة. غير أن عبارة "غير فاسد" تعني أن المعرفة العلمية يجب ألا يبطلها أي تعديل أو عرض ذو منحى مدني. وبطريقة مفارقة، ينبغي المحافظة على نزاهة المعرفة العلمية حتى لو استعملت كمساعد لتشكيل آراء المدنيين.

الصفحات