كتاب " الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية " ، تأليف محسن مهدي ، وترجمه إلى العربية د. وداد الحاج حسن، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية السياسية
الفلسفة والشريعة الإلهية
وإذا كان ثمة موقف تميَّزت به الأمّة المسلمة جمعاء عبر العصور، فهو العرفان بالجميل للوحي وللشريعة الإلهية؛ والمتمثل بالتقيد بالأقوال والأعمال النموذجية للرسول، ناقل الوحي؛ وكذلك بالالتزام بسيرة الرسول والصحابة، وهي الصراط المستقيم الذي ينبغي على الأمّة المحافظة عليه والاقتداء به والعودة إليه دوماً؛ والاقتناع بأن كل ابتعاد عن النهج الذي سلكه السلف الأتقياء خطأ وتمرد يقود إلى انحرافات، وإلى التخلي عن وصايا الله، والتيه والنفي إلى عالم الخيانة الذي ينبغي على الأمّة المسلمة أن تخرج نفسها منه وترجع ثانية إلى مقرِّها. وليس هناك من تفسير مهما بلغ من تعميم، ومن أدوات شرعية، ومن رأي تجمع عليه الأمّة، ومن تبرير يؤسس على حاجة أو تبدّل زمنيين، يستطيع إضعاف الاعتقاد الأساسي بأن التقدم الأصيل يتطلب العودة إلى الأصول. ليس هناك من قوس قزح في الأفق، ولا من عصر ذهبي في آخر زمان البشر، سواء كان ناتجاً عن كمال علوم الإنسان وصناعاته، أو عن سيطرة الإنسان على الطبيعة وتحكمه بها. ويتمثل التقدم في مقاومة الغربة والمسارات الخاطئة، ويتمثّل أيضاً في العودة إلى الأصول بإقفال الدائرة: ففي نهايته تكمن بدايته. لذلك فإن الأمّة المسلمة ليست، البتة، راضية عن الحاضر. وهي تنظر إلى المستقبل، إنما فقط بمقدار ما هي مدعوّة إلى إشعال فتيل الثورة التي ستلغي تمردها بالذات، وإلى إثارة التأمل في مسألة الغاية النهائية وحساب الآخرة. وبعد العودة إلى الصراط المستقيم، صراط السلف الأتقياء، ثمة عودة نهائية لجميع البشر إلى خالقهم، إلى العالم الآخر، عالم الآخرة. وتعتبر حالة السهو عن الآخرة واللامبالاة بها تمرداً وخيانة ونفياً من قبل أمّة لديها منذ البدء الإحساس الطاغي بهذا الأجل القريب.
إنَّ مستلزمات الفلسفة الإسلامية ومستلزمات الشريعة الإسلامية الإلهية، كما هي مدركة عادة، ليست متوافقة من جميع الأوجه. وبالمقابل، فإن الاختصاصي الغربي الحديث في الإسلام يرى أن هنالك غلوّ كبير في الحديث عن أوجه التوافق. أما بالنسبة للفلاسفة وللمتكلمين القدماء، فقد فرض الاختلاف عليهم أن يكونوا متنبهين وأن يتقدموا بحلّ مناسب في بعض الحالات.
وبادئ ذي بدء، يُعد الإنسان القضية المركزية لفلسفة ولشريعة على حد سواء: الفلسفة من عمل الإنسان، والشريعة تخاطب الإنسانَ وليس الحيوان والكواكب أو الملائكة. وبالإضافة إلى ذلك، كلاهما يتطلبان من الإنسان أن يبحث عن شيء أسمى من ذاته، وأن يصبح إلهياً، وأن يتمسَّك بما هو أعلى وأبعد من ذاته. ويواجه الإنسان فريضة أن ينفتح على الكل أو على المبدأ الأسمى للكلّ. كما وأن لا الفلسفة ولا الشريعة، صُمِّمتا لخدمة الإنسان؛ بل الأحرى أن الإنسان هو الذي ينبغي أن يكون في خدمة كل منهما. إنهما ليستا معنيتين بتلبية حاجاته، أو تحسين حالته، كما كانت قبل أن يصبح مدركاً للفلسفة أو للشريعة، لأن الفلسفة والشريعة تعتبران حاجات الإنسان وحالته بائسة وغير جديرة بقدراته ككائن إنساني. ومن الآن فصاعداً، يتم تشكيل إنسية الإنسان، أو إعادة تشكيله، بفضل دعوة أسمى. فالفلسفة تدعو الإنسان إلى معرفة الكون المرئي وقوانينه بواسطة مَلَكته الأسمى، أي عقله أو ذكائه؛ أما الشريعة فتلزمه بالامتثال مخلصاً إلى وصايا الله. غير أنه، في كلتا الحالتين، يؤدي فريضة أكثر مما يطالب بحقوق. فالحقوق الأولى ليست حقوق الإنسان، إنما هي حقوق الكون ومبدأه الأوّل، ألا وهو حق الله على الإنسان أن يعرفه ويطيعه. فلذلك، تفرض كلٌّ من المدينة التي يبنيها الفلاسفة وتلك التي تؤسسها الشريعة، على الإنسان رؤية شاملة إلى الكون ومبدئه الأوّل وإدراكاً لمرتبته في النظام العام للأشياء.
إن التوكيد على واجب الإنسان هو أيضاً المبدأ المسيطر في الحياة المدنية والاجتماعية كما تدركها الفلسفة والشريعة في آن، ولذلك تنبني الحياة المدنية على واجب أن يتصرف المرء بطريقة فاضلة. ولا يعني إنجازه لنشاط فاضل السعي وراء شهواته وأهوائه ولذّاته، إنما تلبية متطلبات الفضيلة كما حدّدها العقل الإنسي أو الشريعة الإلهية. ولهذا فإنَّ النشاط الفاضل ليس في خدمة اللذّة، بل إن هذه اللذّة مشتقة، بالمصادفة، من ذاك النشاط. لذلك، فإن المدينة التي يبنيها الفيلسوف، والمدينة التي وضعتها الشريعة معنيتان كلتاهما بالفضيلة؛ وبالتالي فهما مدينتان فاضلتان. إن الفضيلة هي مركز كل منهما، وهي مبدأ سياستهما وتدبيرهما خلافاً للمدينة المتغلبة التي ليس غرضها أن يفوز الرئيس والمرؤوسون بذلك الخير، إنما أن ينال الرئيس وحده ذلك الخير. ويقود المدينة الفاضلة رئيس حكيم، بينما يقود المدينة المتغلبة رئيس جاهل يسعى وراء ميوله الخسيسة وشهواته ولذاته فحسب.
وإنَّ الفضيلة الرئيسة في كل من المدينة التي يصوغها الفيلسوف وتلك التي تضعها الشريعة هي العدالة؛ والعدل يعني طاعة القانون، أي القانون الذي يشمل كل حالات الحقوق، المدنية منها والجزائية، والعامة منها والخاصة، والأخلاقية منها والملّية، أو الحقوق المتعلقة بالأفعال والمعتقدات في آن. إن الفلاسفة والمتكلمين قد انتصروا طويلاً لأولوية هذه القوانين الشاملة على تلك التي لا تشمل سوى الأفعال فحسب أو الأفعال المقبولة اجتماعياً أو مدنياً. سوف لن نتناول هذه الحجج هنا. وبدلاً من ذلك، سنفحص عن كيفية دفع قانون شامل بعض أعضاء الأمّة المسلمة إلى تجاوز ما تلزم به المتطلبات الشرعية العامة للفضيلة والعدل، فارضاً عليهم واجب المضي إلى ما يتعدى ذلك الإلزام، وكيف تميل هذه المبادرة الإضافية إلى أن تصبح نشاطاً لا اجتماعياً أو نشاطاً خاصاً، وبالتالي كيف يصبح الفيلسوف، انطلاقاً من الفكرة التي يكوِّنها عن هذه المبادرة، مضطراً إلى الافتراق عن بعض أتباع الشريعة الإلهية.
وثمة حاجة، لفهم كيفية حصول ذلك الافتراق، للانطلاق من القيود الشرعية العامة التي تضغط على المعتقد والمعاملات الاجتماعية. لقد ظهرت الشريعة مجهزة بقوانين تهدف إلى تأمين الطاعة، بإثارة ملامح طباع، وهيئات عقلية، ومشاعر، يمكن للمرء إيجازها بالتقوى والتواضع، والخوف والأمل: خشية الله والعقاب؛ والمكافأة الربانية والأمل في الحصول على الجزاء خيراً، لاحقاً، وعلى رحمة الله. وبخلاف القيود القانونية العادية للشريعة، فإن التقوى والتواضع تقبلان تفاوتاً في الدرجات. وعلى المنوال نفسه، إذا كانت الشريعة تلزم الإنسان بأن يبحث في الكون، ويتوصل إلى معرفة مبادئه العليا، وبخاصة منها المبدأ الأعلى، ألا وهو الله نفسه، فإن تلك المعرفة تقبل التفاوت في الدرجات. ولكن، في حين أن متطلبات الحد الأدنى من التقوى والتواضع، إضافة إلى المعرفة، تقع على كاهل الجميع، فإن الحد الأقصى من المتطلبات الممكنة يقع على كاهل بعض المنتجبين دون سواهم.
والحاصل الآن، أن الأفراد القادرين بطباعهم وحالتهم الذهنية، على الإيفاء، على أكمل وجه، بهذين النوعين من المستلزمات، فإنهم إلى حد بعيد مختلفون عن بعضهم بعضاً، إن لم نقل متضادين: إن تلبيتها بحدٍ يتعدى الحدّ الأدنى، يتطلَّب فضائل إضافية من نوع مختلف، وبالتالي يتطلَّب نوعين من التدريب، أو التربية، متميزَيْن الواحد عن الآخر. إن حياة يمضيها المرء في الخوف والقلق الدائمين، ليست مؤاتية لاستفادة المعرفة، وللتقصّي والتفهم والتأمل. فهذه مهام تتطلب بالأحرى أن يحظى الإنسان بالسكون، وأن يجد لذّة في النظر في ما حوله، وفي التساؤل حول ما يرى، وأن يكون متحرراً من الخشية عندما يرى نتائج استقصاءاته، فيفحص عن تصورات مختلفة ويقبل حقيقة ما يكتشف، عن طريق البرهان، ويقرّ بجهله أو شكِّه حين لا يبلغ اليقين.
صحيح، أنَّ التقصي والتقوى، لا يتطلبان معرفة المبادئ الأسمى أو ما يسمى جوهر الله، كما وأنهما لا يفترضان مسبقاً الحكمة التي تحيط بالكل. فالمرء يستطيع أن يخشى المجهول أو الفحص عنه، وهما موقفان ممكنان أيضاً، ويتماشيان مع حالة جهل أولية. غير أن الإنسان لا يحصر نفسه عادة في مرتبة يقرّ فيها بحالة جهله؛ بل إنه يجادل مع الجميع ويبحث عن أرض أصلب من حالة الجهل، للوقوف عليها وبناء تصورات أكثر إيجابية في الكون ومبادئه الأسمى.