كتاب " غاستون باشلار - نحو نظرية في الأدب " ، تأليف سعيد بوخليط ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب غاستون باشلار - نحو نظرية في الأدب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
غاستون باشلار - نحو نظرية في الأدب
مدخـــــل
لماذا سلسلة باشلاريات؟ والمرتبطة كما يدل اسمها باسم الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، من خلال اشتغالاته النظرية والمفهومية والتي قاربت الأدب والعلم -كحقلين متباعدين- بمنهجية واحدة تقوم بالأساس على الانفتاح والسجال، وتجاوز كل نزعة مذهبية تتوخى الحصر والإختزال. العلم يتجاوز ذاته باستمرار، كما أن الأدب يكثف دلالاته بقدر لانهائية القراءات والمقاربات. كل ذلك لأننا نحلم، ولهذا يغير العالم في كل لحظة من جلدته.
لاشك أن الإشكال، الذي يطرح في كل مقاربة لبنية مفهوم العالم المتغير، هو "الحسم" بالمعنى الإجرائي في قضية الأولية الإبستمولوجية لشيء اسمه "التفكير"، وآخر يأخذ صفة "الحلم". في أي شيء يختلف الحلم عن التفكير؟ وهل إعمال الفكر يفترض في لحظة ما، انتفاء وإلغاء للحلم؟ متى يقف الحلم، حتى يعمل الفكر على إرساء رسومه البيانية؟ وبالعكس من ذلك، إلى أي حد يمكن لهذا الحلم السريان والانسياب، دون شيء -نفترض فيه قانونا- يؤسس للأبعاد الزمانية والمكانية؟. وهل يمكن للحلم الاشتغال كفكر مع انتفاء لكل نتيجة سلبية ومعكوسة؟ بقدر ما تتحول الأفكار إلى قوة ثورية.
أعتقد بأن تجاوز هذا التأرجح المفاهيمي، يفترض بالدرجة الأولى تجاوز البداهات والمواضعات التعريفية، وافتراض الممكنات وكذا التحققات اللغوية، التي تعطي حيزاً أولياً للمسافات غير المرسومة داخل الثقافة الاجتماعية، مسألة تقوم على خلفية معرفية أساسية، مضمونها: أن كل ما في ذاته يشغل كمجال للفراغ. هذه الكلمة لا تؤخذ هنا بالمفهوم المادي، ولكن كقيمة ميتافيزيقية تأسيسية، تجعل من ثنائيات: الوجود/العدم، الجسد/الروح، الموت/الحياة. ..، مجرد ممكنات لغوية، لا تقف على حيز لأنها تشغل على الممكن. تصير الموت حياة بخطوة واحدة، والحياة تغدو موتا عند كل سوداوية. الوجود يدركه العدم حتى قبل أن يوجد، لأن السؤال واللماذائية يلتقطان كل زمانية للتحقق. أما العدم، فإن وجوده يربط أساسا بدرجة تعديمه لذاته.
تجاوز نمطية التعريف بأفق مختلف ومتعدد، يعطي للمفهوم إمكانيات سياقية كبيرة. القدرة على الإنفلات من المرجعيات الواحدية، يضع الجسد البشري في إطار مسار وجودي، لا يقود إلى الموت في دلالته القدرية باعتبارها سلطة بيولوجية مطلقة، ولكنه يحول العالم إلى ماهية بدايات ونهايات تتبادلان المواقع.
الحلم فكر "استنفد" فتوته وجدته، والفكر حلم يستبطن باستمرار هواجسه، ولنرجسيته فإنه يتمرأى العالم بشهية. منطق الجميلة العذراء، والتي كلما مرت الأيام كلما ازدادت سلطة جسدها. صحيح أننا نفكر لأننا نحلم، ونفكر بالحلم وفي الحلم، لكن ليست الأحلام مشروعة دائما مثلما أنه ليست كل الأفكار حالمة. أين تقف الأحلام لتبدأ الأفكار؟ ما هو المعيار الذي يمكننا من تمثل مستويات وحدود الحلم والفكر؟ هل يجوز لفكر أن يفكر، دون مثيرات الحلم؟ المعادلة المعرفية المتداولة تقول بأن كل فكر لا يحلم هو تحصيل حاصل، يأخذ في لحظة من تطوره بعدا دوغمائياً. وبالتالي فالحلم هو الترياق الأولي لكل فكر يخشى على ذاته التلاشي، أي البقاء والاستمرار. عملية لا يمكن إدراكها إلا خارج النسيج الاجتماعي والثقافة السائدة، وهي المنظومة التي تسم كل فكر يدرك ذاته خارج التاريخ المتحقق بالفكر الزائغ. الحلم هو السؤال المنفلت، والحلقة التي تشكل مدارات التأسيس. كان الحالمون دائما محط إقصاء اجتماعي، ليس لأنهم يتكلمون لغة لا يفهمها الآخرون، ولا لكونهم يبشرون بقيم مغايرة تحذف ما سبقها ـ ونحن نعلم درجة الارتباط السيكولوجي لكل مجموعة إنسانية بمنظومتها بل تعتقد في كونيتها وإطلاقيتها ـ ولكن لأن الجديد يخيف دائما، ويثير الشك والريبة. تستكين البشرية في الغالب إلى القائم وتعتبره أقصى الممكنات.
نحلم باللغة ونفكر باللغة، تبدو العلاقة بديهية، انطلاقا من فرضية أن العالم كائن لغوي بامتياز. القيمة المضافة هنا، من خلال أفق الحلم، هي أن اللغة تحلم، ليس فقط لأنها مجموعة من العلامات التي تشغل وفق مكونات تركيبية ودلالية وتداولية بالأحرى ذاتية أكثر منها موضوعية وبالتالي تستحضر مجموعة من الإيحاءات المجازية مما يؤدي بشكل من الأشكال إلى تجاوز المنظومة الرمزية للتعاريف القائمة. ولكن بالخصوص لأن الحلم يقوم على التجاوز والكشف، وملامسة الهناك إما في الزمان أو المكان، الأداة المرنة لذلك هي اللغة. حينئذ فإن التفكير باللغة، يكثف من مدلولات العالم، خاصة على مستوى التكلم والتجادل، بينما اللغة الخطية تتوخى الاختزال والتقطير. التفكير باللغة، يعني كذلك أننا قد نفكر بنقيض ذلك أي بالصمت. وأعتقد بأن هذا الأخير يربط داخل أدبيات ثقافة الإختلاف، على الأقل في حدود المعطيات المباشرة للمفهوم، بإعطاء المحتمل أقصى انفتاحاته. صمت الذات أفق للاتحديد واللاتمركز، واستحضار للوجود بلعبته الكلاسيكية التي تبدأ بصرخة الولادة وتنتهي بعويل الموت، لكن بتحويل سياقي للحظتين. الصمت يؤسس التحققات.
لكن لماذا نبتغي بالحلم التجاوز؟ يحلم الفلاسفة بالمفهوم، ويستكين الشعراء إلى الصور الجديدة، في حين يلتجئ غيرهما إلى تكثيف لحظات السكينة واليقظة الشاردة. أي منا لا يتحمل الآخر؟ هل نحن مجرد أشباح تزعج غفوة هذا الوجود؟ أم لأن هذا الأخير بذيء وبشع وثقيل في كل الأحيان! نحس بالتقزز ونحن نلامسه، لذلك نكسر هذا الإغتراب برحيل ومنفى داخليين يتيح لنا ذلك فرصة، أن نأخذ نفسنا بعمق. المسألة تحل ذاتها بسهولة، إذا انطلقنا من موقع معرفي، يختزل الوجود وقضية الوجود بل ومأزق الوجود في شيء واحد اسمه: الجسد المنفلت باستمرار. نحلم بمماثلته، عملية تتحقق زمانيا في لحظة حرجة جدا.