كتاب " سنونوات كابول " ، تأليف ياسمينة خضرا ترجمه إلى العربية محمد ساري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتا
أنت هنا
قراءة كتاب سنونوات كابول
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رفع عبد الجبار حاجز المركبة الحديدي وأسقط الأقفال. بعد ذلك ألقى نظرة أخيرة على الميليشيتين والسجينة ليتأكد أن كل شيء على ما يرام، ثمّ ركب بقرب السائق وأعطى ضربة بأخمص بندقيته على أرضية السيارة إعلاناً بالانطلاق. مباشرة، تدحرجت الشاحنة، محروسة من قبل سيارة كبيرة، رباعية الدفع، يعلوها فانوس دوّار، ومثقلة برجال الميليشيات بأزياء مبتذلة.
تردّد مُحسن رَماتْ طويلاً قبل أن يقرّر الالتحاق بالتجمع المنعقد بالساحة العمومية حيث أعلنوا عن تنفيذ حكم الإعدام بحق امرأة فاجرة. سيتمّ قتلها رجماً. قبل ساعات قليلة، جاء عمال لإفراغ عربات مليئة بالحجارة في مكان تنفيذ حكم الإعدام، كما حفروا ساقية صغيرة بعمق خمسين سنتيمتراً.
سبق لمُحسن أن حضر عدّة إعدامات من هذا النوع. بالأمس فقط، تمّ شنق رجلين، أحدهما في سنّ المراهقة، في أعلى شاحنة-رافعة ولم تُنزل جثتاهما إلا عند سقوط الليل. يكره محسن الإعدامات العمومية. إنها جعلته يدرك هشاشته، كما أثقلت آفاق محدوديته؛ بغتة، اكتشف تفاهة الأشياء والكائنات ولا شيء يصالحه مع قناعاته السابقة حينما كان لا يرفع عينيه باتجاه الأفق إلا ليطالب بحضوره. أصيب بالقرف في أوّل حضوره لتنفيذ إعدام عمومي -تمثّل المشهد في ذبح القاتل من قبل قريب للضحية. خلال ليالٍ عديدة، كانت رؤى كابوسية تعكِّر صفو نومه. عادة ما كان يستيقظ صارخاً أكثر من ممسوس. بعد ذلك، وكلما زادت الأيام في تمتين مشانقها ونمّت قطيعها التكفيري إلى حدّ أضحى الناس في كابول يشعرون بالقلق لفكرة تأجيل تنفيذ إعدام، توقف محسن عن الحلم. انطفأ ضميره. إنه يغرق في نوم عميق بمجرد إغماض العينين ولا يحيا إلا مع الصبح، رأسه فارغ كما الجرّة. أضحى الموت عنده وعند الغير أمراً عادياً. ومن جهة أخرى، أصبحت الحياة كلها لا قيمة لها. لا يوجد شيء ذو بال سِوَى الإعدامات التي تطمئن الأحياء كلما كنس الملالي أمام أبوابهم. لقد تحوّلت كابول إلى غرفة انتظار الرحلة نحو الآخرة. غرفة انتظار مظلمة حيث زوّرت فيها جميع المعالم؛ شقاء محتشم؛ كمون عصي الاحتمال يعاش في سرية تامة.
لا يعرف محسن أين يذهب ولا ماذا يفعل بفراغ أيامه. منذ الصباح، لا يتوقف عن التسكع عبر الأحياء المخرّبة، شارد الذهن، سحنته جامدة. سابقاً، يعني سنوات ضوئية عديدة، كان يحب التجوّل مساءً، عبر شوارع كابول. في ذلك العهد، لم تكن واجهات المحلات تعرض شيئاً ثميناً، ولكن لا أحد يأتي ليسوط وجهك بالكرباج. كان الناس يذهبون إلى انشغالاتهم اليومية بكثير من الحوافز، تجعلهم يخطّطون، في هذيانهم، لمشاريع عجيبة. كانت المحلات غاصة إلى حدّ التشقق؛ تتدفق ضوضاؤها على الأرصفة كما سيل انشراح. كان الشيوخ المكوّمون على كراسي خَيْزَرانية يرضعون نراجيلهم، يغضّنون عيونهم من فرط قوة أشعة الشمس، والمراوح موضوعة بإهمال على بطونهم. أما النساء، وبرغم النقاب المشبّك، فكنّ يستدرن داخل عطرهن كما نفحات الحرارة. لقد كان قادة القوافل القديمة يقرّون بأنهم لم يشاهدوا في أي مكان آخر من العالم، خلال ارتحالهم الدائم، حوريات أكثر إبهاراً. عذارى غامضة، ضحكاتهن نشيد، تغنّجهن استيهام. لهذا السبب، أضحى ارتداء الشادور ضرورة؛ يعمل على حفظهن من الحسد، كما يجنّب الرجال من الوقوع في تعاويذ مفرطة... ما أبعده، ذاك الزمن... أهو حقيقة أم خرافة؟ الآن، لم تعد شوارع كابول تسلّي. تشهد الواجهات الجرداء التي لا تزال واقفة بأعجوبة أن المنازل والبنايات والمطاعم والمحلات المتعددة احترقت كلها. تحوّلت القارعة المزفّتة سابقاً إلى دروب محفورة تكشطها الصنادل والحوافر طوال النهار. أخفى أصحاب المحلات ابتساماتهم في الخزائن. تبخّر مدخِّنو تشي لام وتخندق الرجال خلف الظلال الصينية، أما النساء، المحنّطات بأكفان بلون الرعب والحمى، فغرقن في غفلة مطلقة.
قبل الغزو السوفييتي، كان محسن في عامه العاشر؛ عُمْر لا نفهم فيه لماذا هجر الناس الحدائق العمومية ولماذا أصبح النهار أخطر كما الليل؛ عمر نجهل فيه أن شقاءً يمكن أن يحدث فجأة. كان أبوه تاجراً ناجحاً في البيع بالجملة. أما العائلة فكانت تقطن في منزل كبير وسط المدينة وتستقبل بانتظام الأهل والأصدقاء. لا يتذكر محسن الشيء الكثير عن تلك الفترة، ولكنه متأكد أن سعادته كانت كاملة، ولا أحد يحتج على ضحكاته المرتفعة أو يستهجن نزوات الطفل المدلل الذي كان يمثله. بعد ذلك، حدث التدفق الروسي، بجيشه العرمرم وعملقته الغازية التي توحي بنهاية العالم. فجأة، تلبّدت السماء الأفغانية بالكواسر المدرعة، هي التي كانت فيما سبق مكاناً تنسج فيه أجمل قصص الحب والغرام: تشقّق صفاؤها الأزرق بنثار البارود وتشتّتت السنونوات المفزوعة وسط شلال الصواريخ المتدفقة بلا انقطاع. إن الحرب هنا. ها هي تعثر على وطن...


