كتاب " على قلق " ، تأليف حسام عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب على قلق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
على قلق
كسوف العقل اللبناني
أبدى كاتب عربي قبل أشهر غيرته من كثرة ما يكتب اللبنانيون عن بلدهم ونظامه وتاريخه، مقارنة بضآلة ما ينشر من دراسات في المجالات ذاتها عن الدول العربية الأخرى. ملاحظة الكاتب العربي في محلها، غير أن تناول الشأن اللبناني بات في حاجة إلى إعادة نظر عميقة.
يمكن إيراد ملاحظتين أساسيتين على مضامين الأكثرية الغالبة من «الدراسات اللبنانية»، سواء السريع منها على غرار ما تجده في الصحف اليومية، أو ذلك النوع الساعي إلى قدر أكبر من التأني والبحث في المصادر والأقرب إلى السرد الأكاديمي للأحوال:
ـ الملاحظة الأولى هي الإصرار على البحث عن مخارج للأزمات اللبنانية من ضمن صيغة الحكم الطائفي. غني عن البيان أن الصيغة التي قام عليها لبنان، أي تقاسم السلطة بين الطوائف، تتسم بخطأ بنيوي إذا جاز التعبير خلاصته محاولة إسباغ السكون على المتحرّك، بمعنى العمل على فرض قسمة دائمة لمواقع السلطة على مجتمع يغلي بعوامل الاضطراب. ومن دون العودة إلى أمثلة تاريخية قديمة، يصح اعتبار الأزمة الراهنة دليلاً على أن أسلوب تطبيق اتفاق الطائف بين العامين 1990 و2005، لم يعد قابلاً للاستمرار.
ـــــ الملاحظة الثانية هي أن متعاطي دراسة النموذج السياسي اللبناني غالباً ما يميلون إلى التسليم «بطبيعة» النظام الطائفي والتأسيس على هذا التسليم للبحث عن مسوغات عقلانية لاستمراره والنظر في إمكان إدامته وإصلاحه. قد يكون الناظر في الشأن اللبناني في حاجة إلى منهج شبيه بذاك الذي اعتمدته «مدرسة فرانكفورت» في بنائها لنظرية نقدية تركز على الجانب الاجتماعي. فتكرار التجربة الفاشلة في بناء دولة لبنانية على أسس تقاسم السلطة بين الطوائف، والأثمان الباهظة التي يدفعها مواطنو الجمهورية في كل مرة تنهار الدولة عليهم، أمور ينبغي أن توصل إلى الاستنتاجات المناسبة من أن عطباً مُكوناً يحول دون أن تعمل صيغة الحكم هذه بسلاسة لأكثر من أعوام قليلة، تعود بعدها إلى الشلل المفضي إلى الاقتتال الطائفي ومن ثم إلى تسوية يرعاها الخارج ويرعى فيها، في المقام الأول، مصالحه.
إن دورة الاحتراب والتسوية بين اللبنانيين على مدى القرنين الماضيين، حَرِيّةٌ بأن تدفعهم إلى التأمل في الفوائد التي يجنون في حال قرّروا كسر الدورة هذه والخروج منها أو البقاء فيها لقرون مقبلة، إذ لا مفر من الإقرار بأن النظام الطائفي ما زال قائماً بفضل حمايته لمصالح جماعات لبنانية مؤثرة وحمايته لمكاسبها، تشكّل الذراع المحرّك لعجلة النظام ودورته.
يقودنا الكلام هذا إلى الاستيحاء من أحد مؤسسي «مدرسة فرانكفورت»، الباحث الألماني ماكس هوركهامير الذي لاحظ في مؤلفه «كسوف العقل»، وباختصار شديد، إن المصالح التي تمثل ما أسماه «العقل الذاتي» تفوّقت على الحقائق التي أسماها «العقل الموضوعي»، ما أدى إلى أن تقود أفكار أشخاص مثل كانط وهيغل وماركس إلى ظهور الأنظمة الشمولية والحروب العالمية والمحرقة... وإذا كان من تشابه بين «كسوف العقل» الذي أصاب الحداثة الأوروبية وجعل من ملحمة التنوير أسيرة للإيديولوجيات الشمولية، وبين ما يجري في لبنان (مع التشديد على الفوارق الكمية والنوعية لغير مصلحة النموذج اللبناني بداهة)، يصح القول إن هناك ما يشي بأن بلدنا قد دخل مرحلة خطيرة من الجمود المرتبط باستحالة التوفيق بين حسابات المصالح الطائفية المتناقضة.
إضافة إلى تعميق ارتباط الحياة السياسية بمتغيّرات إقليمية ودولية لا قِبَل للبنانيين بإدارتها، فإن الجمود هذا يمهّد لجعل اللجوء إلى الخيارات القصوى لجوءاً يحمل جدوى ما، في نظر الداعين إليه.
وليس من الإسراف في شيء أخذ العبر من مجموعة من الأحداث السياسية التي شهدها لبنان في الأعوام الثلاثة الماضية. وبما أن لبنان يعيش الذكرى الأولى للحرب الإسرائيلية عليه، فلا بأس من التوقف أمام الاختلاف الكبير في تأويل الحرب أو تبريرها والتعامل معها، بين اللبنانيين. ومن الاختزال بمكان الزعم أن الجماعات اللبنانية المختلفة تقرّ تقييماً واحداً للحرب ناهيك عن الموقف السياسي منها. بكلمات أخرى: إذا كان اللبنانيون منقسمين إلى هذا المستوى في التعامل مع ما شكّل خطراً داهماً بل وجودياً عليهم وعلى كيانهم، فكيف يرون إمكان بناء مؤسسات ليسوا متفقين على واجباتها حيالهم؟ عليه، يبدو اللاهجون بثناء الدولة ومديحها، أقرب ما يكونون إلى فرقة صوفية منهم إلى ممارسين للسياسة بمعناها الواقعي.
خلاصة القول إن البقاء في إطار التعامل مع النظام اللبناني على أنه حقيقة سرمدية أزلية، ومن دون التجرؤ على الدعوة إلى إحداث اختراق معرفي في الطريقة التي ينبغي أن «يفكّر» فيها اللبنانيون بمستقبلهم وبوطنهم، بات يمثل خطراً على لبنان ذاته، طالما أنه الوطن الوحيد الذي يملكون حالياً. وهو ما يعطي مغزى لبنانياً «لكسوف العقل».
8/8/2007