كتاب " العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم " ، تأليف د. أيوب أبو دية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم
كانت أيونيا مركزاً علميّاً متـقـدّماً للحضارة البابليّة، وفي الوقت ذاته، كانت مركزاً تجارّياً مهمّاً، وكانت حضارة أحرار. طاليس (2) (Thales) نفسه، كان تاجراً ناجحاً من مدينة ملطيّة (Miletus) المزدهرة بالتـّجارة على شواطئ آسيا الصّغرى (3).
يرى البعض أنّ فضل طاليس على العِلم ليس في قوله أنّ أساس العالم مادّة واحدة هي الماء، أي أنّ جوهر المادّة هو الماء. فبالرّغم من أنـّه فسَّر الظـّـواهر المادّيّة بدلالة ما هو مادّي، فليس الماء ما هو مهمّ هنا، فقد بنى البابليّون والفراعنة حضارتهم حول مجاري الأنهار، وكان الماء مصدر الحياة وعماد الميثولوجيا عندهم. إنـّما يعود فضله إلى طرح السّؤال: ما أصل العالم، ممّ يتكوَّن هذا العالم في أساسه؟ فالمهم ليس الجواب، إنـّما السّؤال نفسه! وهذا السّؤال تَفوَّق على الأسئلة السّابقة جميعها، الـّـتي سعت إلى تفسير العالم من خلال قـوى فوق طبيعيّة. فقد جــاء هذا السّؤال باحثاً عن مادّة يتكوَّن منها العالم، مادّة قابلة للملاحظة والاختبار (4).
يعتقد البعض أنّ تفسير أرسطو (Aristotle) للسّبب الـّـذي دعى من أجله طاليس بالماء كجوهر للمادة، هو التـّفسير الأقرب إلى الصّواب، بوصفه تفسيراً نابعاً من إشكاليّة فكريّة قريبة من إشكاليّة عصر طاليس. فقد قال أرسطو إنّ الـّـذي جعل طاليس يدّعي بذلك هو رؤيته النـّباتوالحيوان وهو يتغذّى بالرّطوبة، وإدراكه أنّ مبدأ الرّطوبة هو الماء، وأنّ ما يتغذّى منه الشّيء يتكوَّن عنه بالضرورة (5). فهل هذا تفكير مادّي؟
بعض ممّا يدفعنا إلى الاعتقاد أن فلسفة طاليس ليست فلسفة مادية صافية، هو قول طاليس بعالم مليء بالآلهة أو النفوس، وأن في المغناطيس نفساً، لأنه يُحرّك الحديد، وأن الروح هي قوة محركة. وقوله إن الأرض تشبه قرصاً مسطحاً طافياً على الماء، وإن الشمس والقمر والنجوم بخار متألـّـق في أقبية السماء الزرقاء من فوقنا إلخ (6). كل ذلك يجعلنا نعيد النظر في ماديته. ولكنْ، ربما تكون بعض الأقوال قد نـُسبت إليه، أو أنّ الروايات كلها كانت مجرد ادّعاءات تمَّ خلقها لاحقاً. وربما تعود بعض تنبؤاته إلى معرفته بالفلك البابلي، الذي أفاد بتكرر كسوف الشمس مرة كل 18عاماً و11 يوماً،.... إلخ. فهل يمكننا القول إنّ هناك سلفية مادية تحاول أن تجد لها جذوراً ضاربة في التـّاريخ، على غرار المثالية التي تجد أعداداً لا حصر لها من الأمثلة في التاريخ، والتي يمكنها أن تدّعي ارتباطها بها؟
مهما يكن من أمر السلفيّة المادية، التي ربما أثارها السوفيات، بصورة خاصة، من خلال دراساتهم المستفيضة لذلك العصر، لا شك في أن طاليس طرح أسئلة فلسفية مهمة: ممّ يتكوَّن العالم؟ ما حقيقة المادة؟
ولكنْ، ألا يمكننا تصنيف هذه الأسئلة ضمن التساؤلات الميتافيزيقية؟ ألا يمكننا تصنيف الإجابات عنها كذلك! فلماذا لم يخبرنا الأيونيون، مثلاً، عن سبب الحركة الأولى، التي بدأت عملية التـّحوُّل من الجوهر الأول (الماء والرطوبة) إلى مادة الطبيعة الحية والجامدة؟ هل كان هذا السؤال بعيداً عن قدرتهم الإشكالية؟
يرى البعض أن أرسطو، وكان الأقدر على فهم مقاصد الأيونيين، اعتقد أن سبب ذلك هو رغبتهم في الحديث عن مادة تـُفسّر حركتها الذاتية. وبالرغم من أنهم تجنـّـبوا لغة الدين، فإنهم استخدموا اسم الإله (God) أو (The Divine) ، وذلك لوصـف المادة الأولى. وقد سَمّـاهاطاليسالماء، وأنكسمندر (7)(Anaximander) اللامتعيّن، وأنكسمانس(8)(Anaximenes) الهواء.
أمّا قول طاليس إنّ كل شيء مليء بالآلهة، إنـّما يُعبِّر، عند أرسطو، عن رغبة طاليس في إدخال الروح في كل شيء، لإعطائها الصّبغة الحية؛ فالماء ينبض بالحياة، ويعطي الحياة إلخ (9). وعليه، فالقول "إنّ السّؤال: ممّ يتكوّن العالم؟ هو تفكير مادّي"، إنـّما هو قول غير صحيح، ذلك لأن المثالية تطرح الروح كأساس للوجود المادي. والأيونيون لم يُميّزوا بين المادة (Matter) والروح (Spirit) ، بل اختلط الاثنان معاً في تصورهم، فقد كان مفهوم المادة مجبولاً بالروح أو الحياة.
لذلك، يمكننا القول إنّ فلسفتهم في الطبيعة لم تكن مادية خالصة؛ كانت فلسفة الطبيعة في صورتها البدائيّة التي سارت جنباً إلى جنب مع إعمال العقل النظري في الكون، فحركة المادة ذاتية نابعة من خاصيتها، وبالتالي لا وجود لقوة خارجية تحركها. وهي فكرة سوف يتم إعادة إحيائها في عصر النهضة الأوروبية كما سوف نرى.
ربّما يكون تصنيف الفلاسفة السوفيات هو الأكثر دقـة في هذا المقام، وذلـك لإطلاقهم على مادية أيونيا لقب "المادية العفوية"، وذلك لتمييزها عن "المادية الميكانيكية"، التي انطلقت في القرن السابع عشر، وعن "المادية الجدلية" التي ترسّخت في القرن التاسع عشر.
وتتميّز "المادية العفوية" بالملاحظة "البريئة" للطبيعة، وهي تـُذكـّـرنا بالاختبار الاستقرائي البيكوني الذي رأى أن المدخل إلى البحث العلمي يبدأ من الحواس، بحيث تكون ملاحظاتنا خالية من الأوهام المسبقة. فالملاحظة "البريئة" للطبيعة، فتحت الباب أمام الإبداع عند الأيونـيين الأحرار.
دعنا، مثلاً، نتمعّن في نظريّة أنكسمندر في أصل الأحياء، وذلك من زاوية علميتها ودارونيتها، فهو يقول: جاءت الحياة كلها من البحر، وتكيَّفت الحياة بعدها لبيئة جديدة. بعض الأسماك، كالقرش وكلب البحر، مرحلة متوسطة من التطور بين السمك وحيوانات البر. أما الإنسان فأصوله من فصيلة أخرى، لأن الطفل الآدمي بحاجة إلى فترة حضانة طويلة، ولو كان كذلك عمره كله لانقرض (10). إنها أفكار ناجمة عن ملاحظة دقيقة للطبيعة، خالية من الأوهام، وحصيلة بناء استقرائي مُنظَّم للأحداث الطبيعية وعناصرها، وللتغيرات الحاصلة فيها.