أنت هنا

قراءة كتاب العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم

العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم

كتاب " العلم والفلسفة الأوروبية الحديثة من موبرنيق إلى هيوم " ، تأليف د. أيوب أبو دية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

ديمقريطس(460-361 ق. م)

ديمقريطس، الفيلسوف الإغريقي صاحب لقب "الفيلسوف الضاحك" الذي أدرك قيمة البشاشة على صحة الإنسان وعقله، أسس النظرية الذرية في الطبيعة مع أستاذه ليوكيبوس (Leucippus) على أساس مادي نحو نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وهناك من ينسبه في جذوره إلى مدينة ميليتوس (Miletus) ، وهي مدينة طاليس الواقعة على شواطئ آسيا الصغرى، والتي كانت مدينة تجارية مزدهرة آنذاك، ومنهم من يرد أصوله إلى أبديره (Abdera) في بلاد اليونان.

تـُعزى لديمقريطس أعمالٌ عديدة في الأخلاق والفيزياء والرياضيات والموسيقى والفلك، وهذا أمر طبيعي عند الفلاسفة آنذاك، كما كان الفلاسفة المسلمين، والفلاسفة الأوروبيين أيضاً في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إذ اشتغلوا في أكثر من مجال، ولم يكن العلم مستقلاً عن الفلسفة بعد، ولكن الذي يعنينا هنا هو مشروعه الذري المادي الذي تمَّ إحياؤه في القرن السادس عشر في أوروبا.

رد ديمقريطس على عالم الثبات والوحدة عند بارمنيدس؛ الذي ادّعى أن التغير مستحيل وهو مجرد وهم، لأن ذلك يستدعي حدوثاً من عدم، وكان هذا غير ممكن وفق عقلية الإغريق لأنهم اعتقدوا أن المادة قديمة.

بالمقابل، حل ليوكيبّوس وديمقريطس هذه الإشكالية؛ بافتراض وجود ذرات صغيرة من المادة تغير من مواقعها وتجمعاتها بحيث يتشكل العالم على النحو الذي نشاهده.

وافترض ديمقريطس أنها ذرات صغيرة غير قابلة للانقسام؛ رداً على تناقض زينون (Zeno’s Paradox) باستحالة التوقف عن قسمة قيمة محدودة لأنه بإمكاننا استمرار تقسيمها إلى ما لانهاية. فافترض ديمقريطس، رداً على زينون، أنه لابد من الوصول إلى نقطة نقف عندهابالقسمة، وافترضها الذرة. وعليه فإن الذرة الديمقريطسية تحمل معناها اللفظي عند اليونان، (Atomos) ، وهي تعني غير قابلة للقسمة، لامتناهية في العدد، ومختلفة في الحجم والشكل، فضلاً عن أنها صلبة تماماً لا يوجد فيها فراغات داخلية تسمح بمزيد من الانقسام (22).

والذرات تصطدم ببعضها البعض أثناء حركتها في الفراغ اللامتناهي؛ وترتبط الذرات حسب طبيعتها معاً بواسطة كلابات (hooks) لتشكل المواد المختلفة، إما بفعل كلابات، أو لوجود مواد لاصقة، أو لطبيعة تعرّج سطوحها على نحو يسمح بارتباطها والتحامها ببعضها البعض. وفيما تتفكك هذه التشكيلات وتتغير تظل الذرات الأصلية المتناهية في الصغر خالدة.

ورأى ديمقريطس أن الذرات المتشابهة تتجمع معاً كما نشاهد في الطبيعة حينما تتجمع المواد المختلفة؛ وكما نشاهد في الطبيعة عندما تتجمع الأسماك والطيور والكائنات الحية المتماثلة في مجموعات وزرافات.

إذاً، المادة عند ديمقريطس تتكون من ذرات متناهية في الصغر لا ترى بالعين المجردة؛ ذرات خالدة غير قابلة للأنقسام، غير قابلة للانحلال والفناء، وتوجد على نحو مستقل منفصل ومتميز. وأيضاً، تختلف هذه الذرات في الشكل والخاصية والثقل، وتجتمع في أعداد وتشكيلات متنوعة، وتظل في حركة متسقة ومستمرة بحيث تـُكوّن في مجموعها ما تتألف منه ذرات المواد المختلفة؛ لتضفي على المادة تنوعاً هائلاً كالموجود في الطبيعة.

وتطال تركيبات الذرات في أشكالها وخصائصها وأنماطها المتنوعة الأجسام كلها بما في ذلك الروح التي تتكون من ذرات خفيفة تتحلل بفناء الجسد (23).

وحركة الذرات عند ديمقريطس تستلزم وجود الخلاء، فالذرات أو الجواهر المادية لا نهائية العدد تسبح في محيط لا نهائي من الخلاء؛ يتيح لها الحركة والانتقال من مكان إلى آخر لتتكون أشكال جديدة غير مرتبطة بمشروعات غائية في تطورها المتدرج.

خلاصة القول إن الحركة عند ديمقريطس لا تنفصل عن المادّة لأنّ المادّة متحرّكة بذاتها. كما أنّ حركة الذّرّات لا بداية لها، فالعالم، عنده، قديم. أضف إلى ذلك تفسيره الطـّبيعة بالطـّبيعة ذاتها.

يتعدى تأثير ديمقريطس مشروع إحياء النظرية الذرية في القرن السادس عشر إلى التأثير على فلسفة القرن العشرين، إذ يرى بعض الباحثين (24) أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ذرية ديمقريطس وبرتراند رسل في ذريته المنطقية (Logical atomism) في مطلع القرن العشرين، فكلا الفيلسوفين يؤكدان على فكرة "أن الواقع في أساسه يعتمد على التعددية"، ولكن، فيما يتحدث ديمقريطس عن "أساس هذا الواقع الذري الطبيعي المادي غير القابل للانقسام لأجزاء أصغر أكثر دقة"، فإن رسل يتحدث عن "ذرات منطقية غير قابلة للانقسام كذلك".

وهناك تشابه أيضاً بين ذرات ديمقريطس ومونادات (Monads) ليبنتز التي شكلت فلسفته المثالية الذرية، وسوف نتحدث عن ذلك بالتفصيل في فصل الفلسفة الأوروبية الحديثة.

الصفحات