أنت هنا

قراءة كتاب وتساقطت أوراق الخريف

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وتساقطت أوراق الخريف

وتساقطت أوراق الخريف

كتاب " وتساقطت أوراق الخريف " ، تأليف د. عبد الحسن حسن خلف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

طمــوح

كان الوقت خريفاً، وقد مضى على الدراسة شهر أو ما يزيد عليه قليلاً، وقد ودع أكتوبر شجيرات الحدائق تتساقط أوراقها دموعاً عليه، فأخذت مظاهر الوداع ومشاهد الأشجار العارية تذكر سلمان بمعرض فني شاهده منذ سنوات لفنانة مولعة بالطبيعة، إلّا أنها تظهر الأشجار عارية من الأوراق والسيقان عديمة الورود أو ذات ورد ذابل، وعندما سأل عن علة ذلك قيل له: إنها متشائمة من الخريف الذي يوحي لها بتوقف الطبيعة عن النمو وفقدانها لمظاهر القوة في حياتها.

كان سلمان في هذا الوقت يفكر في مشروع يحقق له السعادة أو لعله يعيد إليه شيئاً من سعادته، فقال في نفسه: هل يستطيع الخريف أن يُخيّب ظنون المتشائمين، أو يعيد إلى اليائسين آمالاً كباراً؟! يغدق عليهم عند لقائهم ابتسامات عريضة، يسخر بها من الذين وصموه باليأس والخيبة وفقدان الأمل، ويبعث فيهم حياة لا تعرف الكسل، ويهديهم إلى طريق لا ينتهي بهم إلى اليأس. في زحمة هذه المشاعر المتناقضة والأفكار المتباعدة والمشاهد المتنوعة، حدث هذا المشهد الفريد:

قبل التاسعة بخمس عشرة دقيقة صباحاً، كان سلمان ينتظر الحافلة كعادته، وفجأة وقع نظره على فتاة ممشوقة القامة سمراء ذات شعر مجدول وعينين صفراوين ذاتي أهداب شهلاء. كانت في السابعة والعشرين من عمرها أو ما يزيد عن هذا قليلاً، إلّا أن بشرتها وشعرها وعمرها لا يختلف عن مواصفات النساء في عصرها، ولا يميزها عن كثير ممن يقاربنها أو يمشين معها أو قريباً منها في الباب المعظم أو قريباً منه في ساحة الميدان، إلّا أن الشيء الذي استحوذ عليه وشغل فكره وتملك عليه مشاعره هو هذا الهدوء الذي يحيطها ويغلف شخصيتها، إذا تأملتها وأمعنت النظر إليها وفكرت فيها بعقل منصف أحسست فيها جمال الفن وظفرت منها بهدوء العلماء، كان يحسبها مسافرة أو قاصدة أقارب لها في زيارة خاصة أو إقامة مخصوصة، فالهدوء الذي تلبسه لا يوحي أنها موظفة منشغلة بالوصول إلى عملها، أو طالبة منهمكة بأداء امتحان.

في زحمة هذه التأملات العميقة والتفسيرات التي لا يمكن البرهنة عليها أو إقامة الدليل على صحتها افترقا بعد وصول الحافلة ونزولها في منطقة قريبة من مكان عمله. حسب الأمر سحابة قد أدركت قوماً عطاشاً فلما رأوها أقشعت وتجلت، لكن الأيام اعترضت على هذا التشبيه، ووجه اعتراضها أنه تعبير صبياني يقيم علاقات بين عواطف متناقضة، يبدأها بتفاؤل وطموح وينهيها بيأس وتشاؤم، وقد اعتذر سلمان لها بما يأتي: إن هذا ديدننا في عباراتنا وعتابنا مع الأيام عندما ترفق بنا في تحقيق آمالنــا، أو تقسو علينا فتخيب مساعينا، وشتان بين ضحكنا معها عندما تجمعنا، وبكائنا منها عندما تفرّق جمعنا. بقي أياماً تعترض على تفكيره الأيام ويعتذر لها عن سوء التفكير ورداءة التعبير، وفي زحمة هذه الاعتراضات وهذه الاعتذاريات حدث المشهد الآتي:

في حدود التاسعة صباحاً وبعدها بعشر دقائق وصل سلمان إلى المكان الذي كان يتأمـل فيه الخريف، وإذا بالفتاة التي فارقها قبل أيام واقفة جنب المظلة، لم ينكرها إنما عرفها بعينها وكما تأملها لا تفارق هدوءها، اختار مكاناً في الوقوف لا يبعـد عنها، لكنه ليس قريباً منها، وإذا شاء الدقة في تحديده أنه إذا ناداها فسوف تسمع صوته، وإذا تحدث معها لا تسمعه، كيف الوصول إليها والحديث معها وهي لا تعرفه، ولم تطلع على أسرار تأمله إياها، لكن الأيام التي كان يعاتبها أصبحت في هذه اللحظة حليفة له ورفيقة به.

ترك عدد من الجالسين مقاعدهم، ليس إشفاقاً على الواقفين، والناس عادة في أوقـــات الازدحــام الشديد والانتظار الطويل لا يتذكرون الشفقة، إنما حافلة لمصالحهم قد وصلت، وأقرب إلى المألوف أن يبادر الهادئون إلى الجلوس. تخطت الهادئة وجلست في مكان خالٍ، أحس سلمان أن قلبه يخفق بسرعة، وكأنه يأمره أن يسرع الخطوات، وقبل أن يبدأ بخطوة تذكر الدعاء، فقال: يا ربِّ، يا ربِّ، يا ربِّ! كن على الهوى مساعدي يا رافع السماء، يا موزع الغمام، يا رازق العباد في البلاد! وجلس قريباً منها، وإذا شاء الدقة في تحديده يقول: كان بينه وبينها فراغ يتسع لشخص واحد، وبدأ صمت طويل، لكن القلوب لا تسكت، بدأت الحيرة تفتح أبواب قلبه وعقله، كيف يستطيع أن يكلمها وفي أي مناسبة يدخل في الحديث معها؟

هو مثلها هادئ وخجول، لاسيما أن ثقافته وعمره لا يسمحان له بالدخول في مواقف محرجة، كان سلمان على أعتاب الأربعين، وقد حصل على شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي، تأثر بوجدانيات شكسبير في الشباب والطبيعة وعذاب الروح في صراعها مع الجسد، نشأ في القرية ودرس في الحاضرة، فاصطرعت في نفسه تقلبات الحضارة ومخلفات القرية، وبساطته في توسط قامته واقتصاده في خطواته تظهره مع لينه ووسامته وهدوئه على أنه قروي بلباس حضري، إذا نظرت إليه بهيئته على علاتها حسبته يؤخذ على حين غرة، لكنه في حقيقته صلب صريح يكره المواربة والتملق، ومشكلته التي لم يستطع التغلب عليها أنه يفكر في الأحداث العابرة التي تتفق ورغباته على أنها آمال قد تحققت أو في طريقها إلى التحقق، وقد انعكست هذه المخلفات على سلوكه فجعلته لا يحسن الحديث في مواضيع ذات مناسبة بعيدة، فاعتصم بالصمت والانتظار، لكن الفرصة المناسبة في أوقات عديدة كانت تحبه حتى حسبها شقيقته، وإذا بحافلة مقبلة من جهتها لا يسمح له مكانه برؤيتها؛ فسألها:

- كم رقم هذه الحافلة؟

- سبعة

- هل أتت ((25)) قبل هذا الوقت؟

- لا

- هل كنت هنا قبل التاسعة بخمس عشرة دقيقة؟

- كنت قبل التاسعة بخمس دقائق.

- كانت الحافلات على هذا الخط متوافرة في العام الماضي لكنها نادرة هذا العام.

الصفحات