كتاب " نوارة " ، تأليف هدى عيد ، والذيي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
هل يذكّركم الغد بتلك الأشياء التي نفقدها؟
أنت هنا
قراءة كتاب نوارة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نوارة
القسم الأوّل
أنا قَمَر: حفيدة صفيّة
الأشياء المفقودة
هل يذكّركم الغد بتلك الأشياء التي نفقدها؟
إنّها تتوسّل للمرّة الأخيرة إليكم عبثاً للبقاء إلى جواركم.
الشاعر الألمانيريلكه
تخبط يدي على المنبّه العصبيّ، ينال منّي أكثر من ضربة حتّى أتمكن من إسكات رنينه. يرنّ بداية، يأتيني صوته من مكان بعيد، كأنّه وضع في وادٍ، حتى أحسّ به يولول داخل جمجمتي فيشتعل جنوني، وتبدأ يدي تبحث عنه، عيناي مغمضمتان، ويداي تُفتّشان، أتمكن من القبض عليه، أُسكته بعد أكثر من خبطة.
هكذا يبدأ صباحي في الغالب... معركة حامية بيني وبين المنبّه، وأخرى أكثر ضراوة بيني وبين مربّيتي، إذ بمجرد أن يرتفعَ رنينه، يعلو صوتها برقّة بدايةً:
ـ يلّا يا قمر، يلّا يا حبيبتي.
أضع الوسادة فوق رأسي، أحاول العودة إلى عالم أحلامي السعيدة عادة، تزداد ولولة المنبّه، فيزداد الحماس في صوتها، ترافقه بُحّة، وهي تحاول جاهدةً ألا تغضب:
ـ قلت لك قومي، بعد قليل يصل الباص، لن نوصلك إذا ما تأخرت، السائق ليس هنا...
أحكم الوسادة فوق رأسي، أشتمها في داخلي، أضغط على أذنيّ الاثنتين كي أتمكن من القبض على بعض أطياف أحلامي، أحلم بمالك في معظم الأحيان، نتضاحك ونخترع المقالب؛ يصرّ المنبّه على مزيد من الرنين، أتمكن من إطفائه، لكني لا أتمكن من صوت المربّية التي تروح تدّعي الغضب:
ـ يلّا خلّصينا بقى قبل أن تأتي أمّك، هذه نتيجة السهر حتى الثانية بعد منتصف الليل، سأخبر والدتك الليلة، طيّب يا قمر طوّلي بالك عليّ، سأقطع كلّ الأسلاك، وسأجعل السيد وسيم يوقف اشتراك الستيلات، وسـ....
أنهض قبل أن تتم السين الأخيرة، لئلا نصل إلى ما لا تحمد عقباه، إذ للمرأة كلمتها في هذا المنزل، جدّي هو من اختارها للعناية بنا، وهي تدرك موقعها، أبتسم لها برقّة مزيفة:
ـ صباح الخير. أقول لها وألعنها في سرّي، كنت أحلم بمالك يقبّلني، لا أريدها أن تستمرّ بتهديداتها، تهدأ قليلاً، وتنطلق إلى غرفة أخي تمارس العملية نفسها:
ـ تناولي فطورك، لا تذهبي على الريق.
أكره اللّبنة التي تحاول إطعامنا إيّاها دائماً، الكالسيوم ضروري لعظامنا تقول، أكره البيض، وأكاد أتقيأ الحليب، أحبّ فقط سندويش الزيت والزعتر، أو زبدة الفستق على شرائح التوست.. سأكتفي بِلُقيمات قليلة، أكاد أُجنّ من وزني، كلّما سجّل الميزان نصف كيلو زيادة أتوتر، أنقطع عن الطعام مدة يوم، ثمّ تخونني شهيتي، أزدرد لقيمات، وأنا نصفُ غافية، أنطلق إلى الحمّام، أغسل وجهي، وأنظف أسناني، لا يعجبني وجهي هذه الأيام، أشعر أن أنفي يتضخّم يوماً بعد يوم، والرؤوس السوداء تغزو وجنتيّ. ما يشغل بالي كثيراً هو نتوء أسناني على الرغم من أنّها ناصعة، أحياناً أحسّ أنّ أذنيّ استطالتا بشكل ملحوظ، فيثور غضبٌ في داخلي، يصرّ الجميع على أني فتاة ناعمة، جذّابة، لكني أنظر المرآة فتجتاحني تهيّؤات، وأحاسيس، ورؤى... أفكّر أنّ فيّ زيادات كثيرة يجب التخلص منها، زيادة في وزني، في أنفي، وفي أذنيّ، كثافة في شعر ساقيّ، زيادة في مؤخرتي، آه، وماذا بعد؟ ازدادت هواجسي بعد موت جدّي.
ـ يلّا يا قمر، وصل الباص منذ وقت.
أجلس على أحد المقاعد وأنا نصف نائمة، أغرق فيه وأنزلق، حال رَام أخي ليست أفضل من حالي، جميعنا نجلس، ساهمين نكاد نغفو كأننا لم ننم منذ شهور، قلة منّا يثرثرون، يحاول أحدهم أن يطرح عليّ سؤالاً قائلاً:
ـ أنجزتِ فرض الـ Math ؟
ـ صه...
ألتفتُ نحوَه غاضبة، قد يفعل سوايَ ذلك أيضاً.
نغرق في الصّمت الجماعي مجدّداً، بعض الصغار ممّن يشتعلون حيويةً ترتفع أصواتهم.. واحد منهم يتجرّأ على النهوض، والتحرّش بطالب من الكبار، أو قد يتقافز بين مقعدين مُصدراً خشخشة، أحدجه بنظرةٍ غاضبة تكاد تحرقه، أشير له بإصبعي مهدّدةً:
ـ عُد إلى مكانك.
يرفع كتفيه بدايةً علامة الرفض، تستمرّ نظراتي النارية تَلسعُه، يتأكد من صرامتي، وأنّي لا أمازحه، يتراجع إلى موقعه، ويلتصق بمقعده. يسترق النظر إليّ بين آونة وأخرى عساني ألين. لا أفعل.
في الصف تتوالى علينا ثلّة من الأساتذةِ، كلّ منهم يعتبر نفسه أحدث معجزة اكتشفها زمانه، كنز من المعلومات الثمينة، علينا جميعاً أن نتسابق لننهل منها.
يدرّسنا واحد من هؤلاء الأساتذة يبدو كأنه سليل أسرة فرعونية، عريض المنكبين، ناتىء الأسنان، يضع نظارة سميكة على عينيه، يدلّي خصلة من شعره، يجعلها ممتدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يُحكم إلصاقها بجمجمته، تخفّ رطوبتها ظهراً، فترتفع عن جلدة الرأس، وتروح تلوّح على مسافة كلّما حرّك رأسه، نجنّ مِنَ الضحك.
يعلّمنا مادة الأدب الفرنسيّ، أصغي إليه في بداية الحصّة، ثمّ يتبلّد ذهني، لا أعود أفهم ما يقول.. يلتفت الأستاذ ليسجل جملة أو مقطعاً على اللوح، ترميني سالي بورقة تثرثر عليها، أخربش على ظهرها، أردّها إليها، يبدأ وليد بإصدار أصوات اتفقنا عليها سابقاً، ترافقه جوقة من الزملاء فيما بعد، تسري همهمة في الصف، تروح تعلو، يتوقّف الرجل عن الشرح، تختفي الهمهمة، يعاود شرحه، فنعاود الكرّة، إلى أن يشتعل غضبه، فيخرج عن طوره، ويروح يشتمنا بالفرنسية، وحين يشتد غيظه أكثر يشتمنا بالعربيّة وبكل اللغات، ببساطة نُفقد الرجلَ تهذيبه.